الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 20th October,2003 العدد : 33

الأثنين 24 ,شعبان 1424

كيف تكون الثقافة في خدمة الإمبريالية؟
قراءة في كتاب الثقافة والإمبريالية
د. خلف الجراد
متابعاً حفرياته المعرفية في البنية التكوينية «للخطاب الاستشراقي المعقد» يغوص المفكر الأكاديمي العربي الفلسطيني المعروف إدوارد سعيد من جديد في تلافيف الثقافة الغربية وأنساقها ومفرداتها، التي شكلت منظومة واسعة الأطراف، متنوعة اللغات متشابكة الروابط والوشائج والأساليب، أركانها الأساسية التجارب الإمبريالية البريطانية والفرنسية والأمريكية، التي كانت تملك تناسقاً وتماسكا فريدين، ومركزية ثقافية متميزة نتج عنها تسلطية مكشوفة أو مموهة ضد القوميات والثقافات والهويات الأخرى.
من هنا يأتي تأكيد سعيد بأن ما أغفله في الاستشراق هو تلك الاستجابة للسيطرة الغربية التي توجت بالحركة العظيمة لفكفكة الاستعمار عبر العالم الثالث بأسره فلقد رافق المقاومة المسلحة في أماكن متباينة تباين الجزائر وإيرلندا وإندونيسيا في القرن التاسع عشر على قدر عظيم أيضاً من جهود المقاومة الثقافية في كل مكان تقريباً. كما رافقها تأكيد الهوية القومية، ورافقها في المجال السياسي تكوين الروابط والأحزاب التي تسعى إلى هدف مشترك هو تقرير المصير وتحقيق الاستقلال الوطني.
هذا الكتاب ليس مجرد حلقة تالية ل «الاستشراق» بل يهدف إلى دراسة أشكال ثقافية من إنتاج الإمبراطوريات الغربية الحديثة في القرنين التاسع عشر والعشرين كالرواية، التي يعتقد كاتبنا أنها كانت عظيمة الأهمية في صياغة وجهات النظر والإشارات والتجارب الإمبريالية وهو لا يعني بذلك التركيز المحوري أن الرواية وحدها كانت هامة بل يعدها المشروع الجمالي الذي تمثل علاقته بالمجتمعات المتوسعة في بريطانيا وفرنسا ظاهرة شيقة بصورة خاصة للدراسة، والنموذج الأول للرواية الحديثة الواقعية يجده سعيد في ربونسون كروزوالتي تدور «بعيداً عن المصادفة» حول أوروبي يخلق لنفسه إقطاعية على الجزيرة غير أوروبية نائية.
ويرى إداورد سعيد أنه إذا كانت المعركة الرئيسية في العملية الإمبريالية قد دارت طبعاً من أجل الأرض والثروات لكن حين آل الأمر إلى مسألة من كان يمتلك الأرض ويملك حي استيطانها والعمل عليها ومن استعادها ومن يرسم الآن مستقبلها فإن هذه القضايا قد انعكست ودار حولها الجدال بل حسمت أيضاً لزمن ما في السرد الروائي.
على مدى فصول أربعة ضافية يرصد ادوارد سعيد بأسلوبه الذي يشكل علامة فارقة لحضوره النقدي المتوهج في العالم، بلغته المتفجرة وكلماته ذات الحقول الدلالية الهائلة، ثقافة الإمبريالية «المتفوقة» بأبعادها وتجلياتها وإبداعاتها المرعبة القبيحة والثقافة بهذا المعنى هي مسرح من نمط ما تشتبك عليه قضايا سياسية وعقائدية متعددة متباينة، إنها قد تكون ساحة عراك فوقها تعرض القضايا نفسها لضوء النهار وتتنازع فيما بينها كاشفة، مثلاً حقيقة أن الطلبة الأمريكيين أو الفرنسيين أوالهند الذين يُلقنون أو يقرءوا آداب أوطانهم المكرسة «الكلاسية» قبل أن يقرءوا آداب الآخرين،يتوقع منهم أن ينتموا بولاء فيما يزدرون الآخرين أو يحاربونهم.
إن فحوى كتاب سعيد، يتمثل في أن الأوروبيين والأمريكيين المعاصرين الذين يواجهون اليوم جماهير كبيرة من المهاجرين من غير البيض في عقر دارهم قد تكونت شخصياتهم منذ زمن بفضل العملية الكونية التي أطلقتها إلى الوجود الإمبريالية الحديثة وما انتجته من أجناس وأشكال ثقافية متنوعة طريقته هي التركيز بمقدرة فائقة على أعمال أدبية معينة، حيث يقرأها كنتاج عظيم للخيال الخلاق أو التأويلي أولاً، ثم يكشف العلاقة الدقيقة بين تلك الأعمال الإبداعية والمصالح الإمبراطورية مقراً بأن الانتقائية والاختيار الواعي قد يحكما بما بحثه واحتكراه أملاً في الوقت ذاته أن يمكنه وضعه «كمنتم إلى العالم العربي الإسلامي ويعيش اليوم في نطاق تلك الإمبراطوريات» بمعنى ما التوسط بين الجانبين المتقابلين أوالمتضادين في الحضارة الكونية الراهنة.
وبعبارة أخرى، فإن مباحث عديدة في هذا الكتاب الشائق تدور حول الماضي والحاضر، حولنا وحولهم أما لحظته، فإنها الفترة التالية لانتهاء الحرب الباردة إذ برزت الولايات المتحدة بوصفها آخر القوى العظمى «كما يظهر حالياً» الأمر الذي ترك أثره الواضح على هذا الكتاب، كما جرى أيضاً بالنسبة إلى كل ما كتبه منذ الاستشراق.
إن ما يلفت الانتباه حقاً أن الكتاب يحاول ترسيخ أطروحة مؤداها أن جميع الثقافات متداخلة ضمن سياق من التأثير المتبادل، ليست بينها ثقافة منفردة ونقية محض، بل كلها مهجنة مولدة متخالطة متمايزة إلى درجة فائقة وغير واحدية «ص70» وهو في هذه الأطروحة إنما ينطلق من وضعية النفي الذي نشأ فيه بوصفه عربياً ذا تعليم غربي، ولا يرى ضيراً في إعلان إحساسه بالانتماء إلى كلا العالمين،دون أن يكون جزءاً عضوياً من أي منهما، بل يعتقد أن انتماءه إلى كلتا ضفتي الفالق الإمبريالي يتيح له أن يفهمها بسهولة أكبر لكن ذلك لا يحول دون نبشه عميقاً في سطور مئات الروايات والسير الذاتية وأدب الرحلات، التي صدمته بشدة إذ كان تبشر بالتوسع الإمبريالي وتخلق مناخات ملائمة للتحركات والاستراتيجيات الإمبريالية الأمر الذي يعني انخراط الثقافة وانشباكها في الإمبراطوريات المتوسعة، بما في ذلك الأعمال الروائي والنظريات العرفية والتكهنات الجغرافية والآثارية.. الخ.
وفي الكتاب تحليلات مدهشة لأعمال دولاكروا إدموندبيرك، رسكين، كارلايل، جيمس وجون ستيوارت مل، كيلنغ، بلزاك، فلوبير، كونراد، غراهام غرين ولكثيرين غيرهم إلا أن القيام بهذا العمل الصعب لا يعني إطلاقاً رمي الفنون والثقافة الأوروبية والغربية عامة، بمثالب نقدية قصد إدانتها بالجملة، أنه لا يعني ذلك أبداً «كما يشدد ادوارد سعيد» وإنما قصده تفحص الكيفية التي حدثت بها العملية الإمبريالية في مايتجاوز مستوى القوانين الاقتصادية والقرارات السياسية، وكيف أنها تجلت بفضل النزوع الطبعي، ويفضل سلطة التشكيلات الثقافية القابلة للتمييز، وبفضل التعزيز المستمر ضمن التعليم، والآداب، والفنون البصرية والموسيقية، على مستوى الثقافة القومية التي ما تزال نميل إلى تنزيهها كمجال من النص الفكرية اللامتغيرة برأي ادوارد سعيد «وهذه نقطة مركزية في كتابه» فإن الثقافة والإمبريالية غير خاملتين أو راكدتين، ومن هنا فإن الروابط بينهما كتجارب تاريخية حيوية ومتشابكة معقدة، وإن هدفه الرئيس ليس أن يفصل بل أن يربط، وهو معني بهذا «الربط» لسبب فلسفي ومنهجي يتجلى في أن الأشكال الثقافية هجينة مولدة، مزيجة، مشوبة غير تقية، ولقد آن الأوان في التحليل الثقافي لإعادة ربط تحليل هذه الأشكال بواقعها الفعلي.
من ناحية أخرى يقترح ادوارد سعيد رؤية مغايرة للأدب المقارن، إذ يؤكد أن هذا الحقل المعرفي قد نشأ في مرحلة الإمبريالية والأوروبية العالية، وبالتالي فإنه مرتبط بها ارتباطاً لا مراء فيه وعندئذ نستطيع أن نستخرج من المسار اللاحق للأديب المقارن إحساساً أفضل من بما يمكنه أن يؤدي في الثقافة والسياسة الحديثتين، اللتين تواصل الإمبريالية ممارسة تأثيرها عليهما «ص111».
إن جوهر هذا المؤلف الغني بمعلوماته، الجذاب بتفرده وأصالة تأويلاته، الغزير بمصطلحاته الجديدة أو المولدة والمبتكرة.. يقوم على دراسة الثقافة والإمبريالية في علاقتهما متعددة الألوان والوجوه وفي تركيزه على إبداعات وكتابات وحقول معرفية كثيرة قامت الإمبريالية بتوظيفها واستغلالها، خدمة لأهداف سياسية واقتصادية واستراتيجية واسعة النطاق والشمولية.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
تشكيل
مسرح
ذاكرة
مداخلات
المحررون
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved