الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 20th October,2003 العدد : 33

الأثنين 24 ,شعبان 1424

تراجيدية الهوية والمكان في فكر إدوارد سعيد
أ.د. يوسف سلامة
«خارج المكان» هو الاسم الذي اختاره «ادوارد سعيد» لواحد من اهم كتبه المتأخرة والهامة جدا، وعلى الرغم من انه يقدم لنا في هذا الكتاب سيرة ذاتية، فإن الامر يتجاوز السيرة الى ما هو ابعد من ذلك بكثير. ومع ان القراءة المتعجلة للكتاب قد توقع في الظن بأن محوره الاساسي يدور حول حركة «ادوارد سعيد» خارج فلسطين، ابتداء من طفولته المبكرة وحتى الفراغ من تدوين هذا الكتاب، فإن جميع تلك الاماكن تتكشف باعتبارها «لا مكان» وبالتالي يتحول الكتاب بجملته الى بحث عن «المكان» والى بحث في «المكان» ومن ثم يمكن النظر اليه على انه جهد متصل يستهدف استكشاف الذات لهويتها الذاتية، هذه «الهوية» التي اصبحت مرادفة لل«المكان»، مما حدا ب«ادوارد سعيد» الى ان يقدم لنا نوعا من اعادة البناء لا لل«المكان» فحسب، وانما ايضا لحياته بأكملها انطلاقا من ارتباطها ب«المكان او انفصالها عنه».
ولما لم يكن «ادوارد سعيد» يتقن ماهو انفس من «الكتابة»، فقد اصبحت «الكتابة هي وسيلة استعادة المكان» من ناحية، وفي اعادة انتاج «الهوية» وتعيينها في «المكان المتخيل» او الذي يقع على الحدود الفاصلة بين الحقيقة والخيال من ناحية اخرى، وبذلك تتحول «الكتابة» من مجرد فن الى سلاح يتمكن الكاتب بواسطته من اعادة انتاج الاشياء، بما في «الذات» نفسها اي ذات المؤلف او هويته، وذلك لكون العالم والافكار والذكريات والعواطف والانفعالات تتحول بجملتها الى مادة مرنة مطاوعة تشكلها الكتابة وتعيد صياغتها وفق المتطلبات المتحولة لخالق الافكار او مبدعها. ولذا يقرر «ادوارد سعيد» في كتابه «خارج المكان» بأن مشاعر عميقة من الارتياب قد انتابته عندما حزم امره على تأليف كتاب حول حياته المبكرة التي عاش معظمها في «القدس» و«القاهرة» و«ضهور الشوير» وذلك لانه قد ادرك انه مقدم على عمل متناقض جذريا هو اعادة بناء عالم في مصطلحات عالم آخر. وهذا يعني ان الكتابة ذاتها عمل متناقض يستهدف رفع التناقض، لا في النص وحده، وانما ايضا في العالم الذي ينتجه الكاتب، وذلك لما تمتاز به الكتابة من مقدرة على صياغة العوالم المختلفة صياغات جديدة، الامر الذي يحول الكتابة ذاتها من حيث هي جهد يستهدف انتاج الهوية ورفع التناقضات المختلفة والتخفيف من وقع تراجيدية التناقض الى «فعل استذكار» والى «فعل نسيان» او «عملية استبدال اللغة القديمة باللغة الجديدة».
ان الفعل الانشائي للكتابة هذا الفعل المتناقض الذي يستهدف رفع التناقض وانتاج الهوية في آن معا يحول الكتابة ذاتها الى «كم من الانزياحات والتغايرات والضياع والتشوه» وتلك الانزياحات والانزلاقات هي السبب الذي جعل «ادوارد سعيد» يصف هويته الذاتية، نتيجة لفعل الكتابة المتناقض، بأنها «تتكون من تيارات وحركات لا من عناصر ثابتة جامدة.
وهذا يعني ان الكتابة وان كانت تسهم في رفع التناقض القائم في صميم الحياة الروحية والنفسية للكاتب لا تفعل ذلك الا بصورة نسبية جدا، ذلك لان الهوية الحقيقية هوية متمردة وغير مستقرة، متمردة على ذاتها قبل ان تكون متمردة على عالمها.
فالكتابة فعل لا متناه، ومن ثم يتعين على الكاتب ان يستمر في الكتابة حتى يكون قادرا على حفظ هويته الذاتية حية ومتطورة بحيث لا تسقط في الجمود او الثبات المكافىء للموت وانعدام الحياة، فما الهوية المتكافئة مع ذاتها تمام التكافؤ سوى الموت ذاته وهي ايضا شهادة على ان الكائن الذي يتمتع بهذا التكافؤ مع ذاته انما تكمن حقيقته في احد امرين: فهو اما ان يكون قد مات بالفعل، واما ان يكون قد كف عن الكتابة.
واذا فالكتابة وانتاج الهوية فعلان متوازيان بل متكاملان ومتداخلان في فكر «ادوارد سعيد» حتى ليصعب علينا التمييز تمييزا دقيقا، داخل هذا الفكر، ما ان كان الكاتب ينتج ذاته او يكتشفها عبر الكتابة فانتاج الهوية او استعادتها هو جوهر الفعل الخلاق للكتابة، فبفضل هذه الاستعادة، ذلك الوضع للهوية يتحقق لنا استنقاض الماضي من العدم ذاته على هيئة صيرورة معقولة للحياة تتخذ صورة ذاتية او هوية موصولة التطور عبر الزمن، على الرغم من انقطاع الصيرورة الحية وتحولها الى كتل متقابلة وموزعة بين امكنة واقعية موحدة عندما يكون الامر معلقاً ب«ادوارد او بأي فلسطيني آخر». وهكذا لم يكن بد «لادوارد»، من اجل تحقيق ذلك كله، ان يعكف على فوضى تاريخه الحقيقي واصوله منتقيا عناصرها نتفة ليحاول من ثم.. اعادة تركيبها بشيء من الانتظام.
اذ من شأن خلع النظام على العناصر الفوضوية ان يخرجها من عزلتها ومن ماضيها وان يدمجها في هوية واحدة، وذلك فيما لو امكن للكتابة ان تردها في النهاية الى مكان واحد ايضا. وهكذا تتحول العلاقة بين الكتابة والمكان الى علاقة مماثلة لتلك العلاقة القائمة بين الاقلام والقرطاس. وكما ان القلم لا يترك اثرا الا على الورق، كذلك فإن الكتابة تظل مجرد ذكرى، تبهت وتضعف بمرور الزمن، ما لم تتسجل في مكان معين حيث تقوم بينهما علاقة سلالية هي اقرب الى نوع من العلاقة التناسلية التي لا تكتفي بأن تحفظ للهوية ذاتيتها، بل هي لا تكف عن اغناء الهوية عبر الصيرورة المستمرة لهذا النوع من العلاقة بين الذات، التي هي زمانية في التحليل الاخير، وبين المكان الذي تتعين فيه هذه الزمانية على انحاء لا متناهية عبر تجربة الوطن والاغتراب.
ولكن ما الذي جعل هذا التاريخ الشخصي مجموعة من العناصر تسيطر عليها الفوضى الوجدانية والنفسية والاجتماعية والثقافية والسياسية بآن واحد.
الجواب الاولي والمبدئي عن هذا السؤال هو غياب «المكان» او فقدان «الحيز» الذي تنتظم فيه الاشياء او تنغرس فيه بصورة ادق. غير ان هذه الاجابة ذاتها تحيل من جديد الى سؤال آخر لماذا فقد «المكان» في حياة «ادوارد»، هذا الفقد الذي ادى بدوره الى تشظي الزمان وتفككه وتوزع آناته ولحظاته في كل اتجاه، من غير ان يكون في وسع، الذات التي ينتسب اليها هذا الزمان انتاج ذاتها بصورة موحدة وعبر هوية واضحة راسخة؟
ضاع «المكان» وتشتت «الزمان» وتحولت حياة «ادوارد» الى شظايا موزعة ومفرقة ومضيعة في امكنة لا حصر لها لاسباب لا يد فيها ل«ادوارد» فهي مجموعة معقدة من الاسباب شوهت حياة الفلسطينيين جميعا، وحتى حياة العرب، لا فرق في ذلك بين ان يكون الواحد منهم «ادوارد» او «سعيد» او اي اسم آخر، اذ يكفي ان تكون فلسطينياً حتى تكون «ادوارد»، اي بلا مكان يعين فيه الزمان، مما جعل الفلسطيني دوما، ومنذ اكثر من نصف قرن، مجبرا على ان يحمل الزمان على كتفيه في حله وترحاله. وما الزمان الا ذات الفلسطيني التي يكتبها ان كان كاتبا او يرويها عبر تراثه الشفوي بصورة او بأخرى، ان لم يكن كاتبا وهكذا اكتشف «ادوارد» كل شيء عندما اهتدى الى المكان الذي تستمد منه هويته كل دلالاتها ومضامينها التي كان ينبغي لها ان تنعكس فيه مغيرة سطحه ومتفاعلة مع عمقه. وهكذا اضحت كل قصة فلسطينية تستمد ما فيها من اهمية من نقطة البدء فيها، من المكان الذي تنطلق منه، والذي ينبغي لها ان تختتم فيه، وحتى ولو كان ذلك بصورة رمزية.
ذلكم هو الشأن بالنسبة ل«ادوارد» ايضا فقصته التي طوف فيها طويلا «خارج المكان» قد انطلقت في الاصل من مكان اصيل لها قد انتزعت منه تعسفاً، وما هذا «المكان» الا «القدس الغربية» باعتبارها الصورة الرمزية للمكان كله. وقد افضت الكتابة ب«ادوارد»، بوصفها فناً، الى انتاج الزمان على نحو عكسي، فكانت النتيجة هي استعادة المكان على مستوى المتخيل، فالتحمت بذلك رجولة «ادوارد» وشيخوخته ومرضه وعلمه ونقده وكل معارفه، التي جعلت منه شخصية استثنائية في كل الميادين التي ارتادها بما في ذلك كونه واحداً من كبار العازفين على آلة «البيانو، وواحداً من كبار العارفين بأسرار الموسيقى الكلاسيكية الاوروبية، وخاصة موسيقى بيتهوفن بطفولته وملاعب لهوه وبراءته التي رافقته حتى نهاية حياته وجعلته ينظر الى البشر، جميع البشر باعتبارهم قادرين على المحبة بغير حدود وباعتبارهم قادرين على صنع السلام ان حكموا الارادة الطيبة والعقل النزيه.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
تشكيل
مسرح
ذاكرة
مداخلات
المحررون
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved