الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 20th October,2003 العدد : 33

الأثنين 24 ,شعبان 1424

إدوارد سعيد.. عن الصلة بين الاستشراق والقضية الفلسطينية
ثائر ديب سوريا
إزاء مفكر مثل إدوارد سعيد، خاصة بعد وفاته، لا تليق كلمات المديح المبذول التي تصلح لأي أحد آخر ما إن نبدل الاسم. ولعل أصدق ما نعاه هم أولئك الذين قاموا إزاء فكره بما يجب على كل ذهن نقدي أن يقوم به، فتفحصوه، وساءلوه، واختلفوا معه في أشياء، وقبلوا أشياء أخرى، دون أن يحول كل ذلك بينهم وبين اعتباره قامة فكرية لا تضاهى، وربما كان من أبرز هؤلاء كل من المفكر الهندي اعجاز أحمد والمفكر السوري صادق جلال العظم، وسواهم.
كان إدوارد سعيد في أول صفوف الكتاب الذين تنطوي كتابتهم على الاضافة، وعلى فتح آفاق، وحقول، وربما عهود جديدة، كما كان في الوقت ذاته ذلك المفكر الجريء والمثقف الأخلاقي الذي لا يتورّع عن الجهر بآرائه مهما اختلفت عن السائد والرائج ومهما كان الثمن الذي يمكن ان يدفعه، وهذا ما يحملنا المسؤولية الأخلاقية في أن نطلع على آرائه وتعرضها بأمانة ونتيح لها الظهور مهما اختلفت عن آرائنا أو تعارضت معها.
وربما كان من الممكن ان نلقي الضوء على الرابط بين اضافة سعيد وجرأته من خلال محاولة استكشاف علاقة غير واضحة مباشرة بين رؤيته في كتابه «الاستشراق» ووجهة نظره في القضية الفلسطينية. فما كان يهم سعيد في «الاستشراق»، إذا ما أمعنا النظر، هو الطريقة التي يتشكل بها حقل معين من حقول البحث، شأن كل الحقول، من خلال لغته، على الرغم من أن هذه اللغة ذاتها ربما تكون قد غدت بعيدة أكثر فأكثر عن تجارب ووقائع الموضوع الذي يفترض بها ان تتناوله، وهذا الموضوع هو الشرق في هذه الحالة. أما بالنسبة لما كتبه سعيد عن القضية الفلسطينية، فلم يكن الدافع، في جوهره، بعيداً عن المنطق الذي قاد كتاب «الاستشراق».
ففي عام 1969م، وكما يقول سعيد، صدر عن غولدا مائير ان «ليس هنالك فلسطينيون» وذلك ما حرضه على التحدي المتمثل بالافصاح عن تاريخ من الضياع والاقتلاع ينبغي انتزاعه، لحظة لحظة، وكلمة كلمة، وشبراً شبراً، من ذات التاريخ الواقعي لاقامة اسرائيل، ووجودها، وما انجزته.
هكذا راح سعيد يعمل على ما يكاد أن يكون عنصراً سلبياً تماما، هو اللاوجود، واللاتاريخ الذي ينبغي له أن يجعله مرئياً وواضحاً على الرغم من ضروب الحصار، واساءة التمثيل، والإنكار. وكان من المحتوم ان يقوده هذا، وهنا اللقاء مع منطق «الاستشراق»، الى تقصي الكيفية التي تتم بها تكون موضوع ما، والكيفية التي تم بها تشكل لغة ما؛ أي الكتابة بوصفها ابتناء لوقائع تخدم على نحو أدائي هذا الغرض أو ذاك. وكان هذا عالم القوة والتمثيلات، عالم برز الى الوجود بوصفه سلسلة من القرارات اتخذها كتاب، وسياسيون، وفلاسفة لكي يدللوا على واقع معين أو يشيروا اليه ويطمسوا سواه في الوقت ذاته.
تتمثل فرادة إدوارد سعيد بين المثقفين العرب في ادراكه أن أساطير الصهيونية عن فلسطين «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، عمل الرواد الصهاينة الذي خضّر الصحراء، القفر الذي لا يشتمل إلا على البدو المبعثرين هنا وهناك، أرض اليهود منذ قديم الزمان..» وعن الفلسطينيين «الذين لا وجود لهم، والذين تركوا فلسطين عام 1948 لأن إذاعة القاهرة طلبت منهم الفرار، والذين أتوا من سورية بفعل جاذبية المعجزة الاقتصادية اليهودية.. ومئات الأساطير الأخرى»، هي نتاج حاجة تتعدى الدعاية وتزيد عليها، فلهذه الأساطير، كما فهم سعيد، أهميتها المركزية في أبستمولوجيا الصهيونية «أو النظرية المعرفية لديها».
لقد كان قدر الفلسطينيين أن يضطهدهم عدو عانى هو نفسه أشد الظلم والاضطهاد، ففرادة وضع الفلسطينيين، كما رأي سعيد، «تتمثل في كوننا ضحايا الضحايا»، ذلك أن يهود أوروبا الذين عانوا من الاقصاء والتمييز، أتوا ليطردوا شعباً آخر تحت راية إيديولوجيا اقصائية تسعى ذلك السعي المنهجي المنظم الى بناء وطن قومي يهودي في مكان كان طوال آلاف السنين وطناً للفلسطنيين.
هنا يكمن التناقض الجوهري لدى اليهودية الغربية في علاقتها مع الصهيونية واسرائيل والفلسطينيين، أما أيسر السبل للفرار من هذا التناقض فقد تمثل بلوم الضحايا، والحط من انسانيتهم، وشيطنتهم ولقد أدرك سعيد أن هذه الأساطير إنما هي جزء لا يتجزأ من الدولة اليهودية وما تمارسه الصهيونية من نزع لانسانية الفلسطينيين. ولقد قُدِّر له أن يرد على كل ذلك بأقوى وأحسن ما يكون الرد، حيث فضح أشد الفضح، ومنذ البداية، ذلك الحقد والخبث والعنصرية التي صورت بها وسائل الاعلام العرب، وربط الانحياز الواسع السائد ضد العرب بمعاداة السامية التي كان اليهود أنفسهم ولا يزالون، ياللمفارقة الساخرة، يتهمون بها العرب.
والى هذا، فقد رأى سعيد أن الفلسطيني هو شبح اليهودي الذي لن يختفي ما لم يتعانق البشر ذلك العناق الانساني حقاً. ومنذ ان بدأ سعيد يكتب في هذا الموضوع، كان ان ظهرت جماعة المراجعة التاريخية من المؤرخين الاسرائيليين لتقوم بفضح مزيد من أساطير الصهيونية وتخرج مزيداً من الحقائق الى النور.
وفي كلام موجه أساساً الى الليبرالية التي لا يجد سعيد في ذخيراتها الفكرية ما يتيح لها ان تصفح عن الممارسات الصهيونية ما عدا تاريخ هذه الليبرالية في اقامة الاستثناءات كلما تعثرت أمورها، في هذا الكلام يضع سعيد فلسطين محكاً لحقوق الانسان.. «ليس لأن الدفاع عنها يمكن اطلاقه بالبساطة والأناقة التي تم بها الدفاع عن تحرر جنوب أفريقيا، بل لأن هذا الدفاع لا يمكن اطلاقه بتلك البساطة. وإذ أتكلم كفلسطيني ملتزم، فإنني أشك في أن أحداً منا قد اكتشف كيف يتشابك تاريخنا المرهق الشاق مع تاريخ اليهود الذين طردونا ويحاولون الآن ان يحكمونا غير أننا نعلم أن هذين التاريخين لا يمكن فصلهما وان الليبرالي الغربي الذي يحاول أن يفعل ذلك إنما ينتهك كليهما ويسيء اليهما على السواء بدلاً أن يفهمها ولا يكاد يكون ثمة مثال تكون فيه الصلة بين الحرية والتأويل بالإلحاح والملموسية كما هي بالنسبة للشعب الفلسطيني، الذي تم بعيداً في الغرب تأويل قسط عظيم من وجوده ومصيره لكي تُنكر علينا تلك الحرية ذاتها وذاك التأويل ذاته اللذان يمنحان لليهود الاسرائيليين. لقد حان الوقت أخيراً لربط وفهم هذين الشعبين معاً على النحو الذي سبق لواقعهما الفعلي المشترك في فلسطين التاريخية ان ربطهما معاً. عندئذ وحسب يمكن للتأويل أن يكون من أجل الحرية وبدلاً من أن يكون عنها فحسب».
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
تشكيل
مسرح
ذاكرة
مداخلات
المحررون
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved