الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 20th October,2003 العدد : 33

الأثنين 24 ,شعبان 1424

هؤلاء مرُّوا على جسر التنهدات
الأديب.. مالك الحزين!!
بقلم/علوي طه الصافي

حين تعرَّفتُ عليه شخصياً في بداية «الثمانينيات».. وبالتحديد عام 1382هـ على ما أذكر كان يعمل مشرفاً على تحرير جريدة «الرائد» لصاحبها، ورئيس تحريرها الصديق عبدالفتاح أبو مدين، الذي كان في لندن لدراسة اللغة الانجليزية.. وقد كان حديث ذكريات أوردته في إحدى حلقات مذكراتي الصحافية بعنوان «مذكرات صحافي.. ناقص الذاكرة» التي تنشر مسلسلة في «المجلة العربية» الشهرية التي تصدر في الرياض يرأس تحريرها الصديق الوديع «حمد عبدالله القاضي» الذي أحرجني بكتابة مذكراتي الصحافية فقط، وكنت أريدها «سيرة ذاتية» ترصد حياتي الستينية، منذ الطفولة.. فكأن حبيبنا «القاضي» برغبته قد شَطَر حياتي إلى شطرين.. ولأنني ضعيف أمام الأصدقاء الذين أحبهم فقد استجبت لرغبته.. وكنتُ أشعر بشيء من المعاناة أثناء الكتابة لحرصي على فصل ما يمس حياتي الإنسانية المرتبطة ارتباطاً حميماً بالأعمال التي قمتُ بها، وما مرَّ على حياتي من جراح، وأمل، وألم، وحزن، وفرح.. وفشل ونجاح.. وكسب وخسارة.. ومن مرَّ عليَّ في حياتي من الناس «الطيبين».. والناس «الوحشين».. وقد نشرت من هذه المذكرات (19) حلقة.. والبقية في الطريق.
ورب ضارة نافعة فقد فتحت لي هذه المذكرات المشطورة أن أكتب هذه الحلقات في هذه «المجلة الثقافية» عن ذكرياتي عن الأشخاص الذين عبروا على جسر حياتي المتواضعة.. وكانت لي معهم بعض المواقف.
ولأنني قلت شيئاً في مذكراتي المشطورة عن شخصية هذه الحلقة، فإنني سأحاول كتابة مالم يرد في تلك المذكرات تجنباً للتكرار.. أملاً في أن أوفق في هذا الفصل الإنشطاري..
في تذكر بقايا ذاكرة قديمة!! صديقنا شخصية هذه الحلقة، هو الدكتور الأديب المبدع عبدالله مناع.. أو كما أميل إلى إطلاق لقب «مالك الحزين» عليه لأسباب سترد في هذه الحلقة.
وفي مدينة «الاسكندرية» المليحة ببحرها.. وشواطئها الرملية الساحرة التي تذكرّك بشواطئ ساحل «الريغيرا» في فرنسا.. أو شواطئ «هاواي»، و«هونولولو» في أمريكا!!
شواطئ تلك المدينة العربية المليحة التي شهدت مرحلة مهمة، بل أجمل مراحل عمر صديقنا، هي مرحلة الشباب.. حيث تفتَّقت ذاكرته.. وتشكلت عقليته.. وخفق قلبه الشاب أول ما خفق فيها.. شهدت طموحاته، وتطلعاته.. انكسارات مشاعره.. وجراح أحاسيسه.. كما شهدت «مواويل» عشقه، وغرامه.. مع ليالي «أم كلثوم» الطويلة.. و«سجا» دندنات «محمد عبدالوهاب» على «جندول» يختال مزهواً كعريس يعيش أولى لياليه المشرقة بالزهور!!
الاسكندرية التي أنجبت الموسيقار العبقري المبدع الفذ «سيد درويش» بموشحاته الجديدة، المتجدّدة.. كما ضمت أكبر مكتبة في التاريخ، وعانقت دموع وشروقات الشاعر «الزجلي» الثائر (بيرم التونسي).
وحين ترتبط هذه المعالم بحياة صديقنا «مالك الحزين» فإن الفصل بينه، وبينها هو فصل بين «الأثر.. والمؤثر» للإشادة بالمكان.. وبين مصادر إبداع الشخص «المتأثر».. لهذا نرى أن مثل هذا «الفصل» فيه اعتساف وتعسف.
فالأمكنة ليست الحجارة الخرساء.. والمباني الصم.. والشوارع الصامتة المعطوبة بالأخاديد والحُفَر.. الأمكنة هي الناس، وبالناس.. الأمكنة هي ذكريات الناس.. وحياة الناس النابضة بالحركة والحيوية.
إذن، فإن الفصل بين الأمكنة، وبين الناس يعد «ذبحاً» مثل الغربة للأحرار، ألم يقل الشاعر «ابن النحَّاس المدني».. «إنما الغربة للأحرار ذَبْحُ»؟ ويعد «بتراً»، إن لم يكن «وأداً» جاهلياً، لكل ماهو جميل.. وإنساني، في هذه الأماكن التي تتحول بدون الناس، وذكريات الناس إلى «خرائب».. و«أطلال» ينعق في جنباتها «البوم».. وتسكنها «الخفافيش».. وتزحف في قيعانها، وأرضياتها، وسطوحها «الأفاعي»، و«الأحناش»، وتعشش فيها «الهوام»!!
لهذا حين يتحدث الدارسون والباحثون.. وأصحاب الذكريات عن شخصيات أدبية، أو علمية، أو فنية.. فإن من المهم جداً جداً الحديث عن البيئة المحيطة بالشخص المدروس.. وروافده الثقافية، والاجتماعية، والإنسانية، والحياتية، بقدر الإمكان.. لأن هذه الروافد هي «المؤثر» الرئيس في تشكيل في ذهنيته، ونفسيته.. فالإنسان أي إنسان يتأثر بالبيئة، ويؤثر فيها، كما يرى الجغرافيون.
والإنسان بطبيعته «كائن اجتماعي»، لا يستطيع العيش في جزيرة نائية، منفياً بنفسه، وبذاته مثل «حي بن يقظان».. و«روبنسون كروزو» لأنهما شخصان متخيلان نابعان من تخيلات «ابن طفيل الاندلسي».. وتصورات «دانييل ديغو».
ومعذرة للتجنيح بالذكريات الشخصية في عناقها الحميم مع التاريخ.. وما ذلك إلا لقناعتنا بأن حديث الذكريات يتعلق من رموشه بالتاريخ السابق عليه.. إذا كان هذا التاريخ يرتبط به ارتباطا حميماً يثريه، ويغنيه.
وإذا كان صديقنا العزيز المناع عاش طفولته كما نتصور بين أزقة حارات جدة.. المزدانة بمبانيها التاريخية.. المتميزة برواشينها التي تغرِّد عليها «القماري».. وتتعاشق.. وتتحابب.. وتتناسل، كأنها تروي لأهلها الذين يسكنون هذه المباني المتلاحمة، المتناغمة، كتلاحم مجتمعها بنسيجه المتعدد الأنواع.. وألوان طيف غروب شمسها في سحر ودلال، تروي لهم ملحمة لم يسجلها تاريخ.
كأن تلك «القماري»، على «الرواشين» تحكي للناس حكايات الحب الذي لم يكتب، وقصص العشق والسهد التي تفوق تخيلات الشعراء الحالمين.. وتصورات المبدعين، وآهاتهم، ولوعاتهم.
هذه هي روافد صديقنا (المناع).. وهذه هي الصورة «البانورامية» التي عاشها في جدة، والاسكندرية طفلاً، ويافعاً، ورجلاً، ورمزاً من رموز المجتمع «الجداوي».
كانت له عيادته لطب الأسنان في أكبر وأهم شارع في جدة، هو شارع الملك عبدالعزيز.. حين تدخلها تظن أنك ستدخل عيادة طبيب أسنان.. وقد تتراجع القهقري عائداً إلى حيث أتيت.. لأنك لن تجد ممرضاً أو ممرضة تستقبلك.. وإذا وقفت تراقب وتسمع عن بعد فإنك ستتصور نفسك داخلاً أحد المنتديات، أو الصالونات الأدبية.. رجال.. وشيوخ.. وشباب.. لم يأتوا لعلاج أسنانهم، وإنما هم جماعة أدركتهم حرفة الأدب، كما تقول العرب.. يتوسطهم «وجه البقشة» كما سماه بابا عزيز ضياء رحمه الله.. لهذا قلت عنه: إنه أديب فقد طريقه إلى الطب.
كما فقد قبله طريقه شاعر الأطلال «ابراهيم ناجي» بدراسته للطب ويوسف ادريس وغيرهم وقد تصورت أن صديقنا (المناع) يسهر ليله في قراءة القصص والروايات والمسرحيات أثناء الدراسة أكثر من مطالعته كتب الطب الجافة.. ولا استبعد ان حصيلته، أو نتيجته في امتحان السنة النهاية كانت «متوسطة»، إن لم تكن «مقبولة» مثلي في دراسة الحقوق!! وكنت أتوقع أنه سيأتي يوم يغلق فيه العيادة التي يأتي إليها الناس لعلاج قلوبهم، ونفوسهم، وعقولهم بالشعر والأدب.. لا لعلاج أسنانهم وحدث ما توقعته، فقد أقفل العيادة.. وعاد إلى مناخه الفطري.. وجوه الأدبي.
والمناع حين يكتب لا يكتب دون معاناة.. فإذا عانى كتب.. وإذا كتب عانى.. لأنه لا يكتب بقلمه.. بل يكتب بكل مشاعره، وأحاسيسه.. ويغرق في نهر من التفكير.. وبحر من التأمل بحثاً عن عبارة شاردة.. أو صورة مجنحة.. أو مفردة جديدة.. وبعد أن ينتهي من الكتابة يحس أنه ركض عشرات الكيلوات.. وينظر إلى منفضة السجائر ليجد انها قد امتلأت بعشرات الأعقاب!!
في حرفه «أنين الحيارى».. وفي عبارته «قمم الشفاء».. وفي نفسه «شيء ما» وطريقه «معتم ومضيء».. وحياته «العالم رحلة».
يغيب عن الكتابة سنوات.. ثم يعود إليها لأشهر.. فهو كاتب مزاج.. وحالة نفسية.. إذا كتب مقدمة لكتاب أفسد على صاحب الكتاب كتابه.. تصبح مقدمته هي الكتاب.. ويتحول الكتاب إلى مشروع هامشي.. أو «دولاب خامس» بحيث يكتفي القارئ بقراءة المقدمة ليرمي بالكتاب جانباً.. ويصبح مؤلف الكتاب مجنياً عليه.. ومغلوباً على أمره!!
شخصيته تجمع بين المظهر «الكلاسيكي».. ونموذج الرجل «الارستقراطي».. وهو كلاسيكي المظهر لأنه لايستعمل ساعة اليد.. بل يستعمل عوضاً عنها ساعة «الجيب».. التي كان يستعملها أبي، ويسميها «رأس كوب»..ويضيف إلى ذلك تعليقها بحبل أسود رقيق يضعه على عنقه.. بعض الذين لايعرفونه يتصورون ان هذا الحبل الأسود الرقيق ينتهي إلى مسجل صغير جداً يضعه في جيب ثوبه العلوي.
وهو ارستقراطي لأنه دائم الأناقة.. حتى طريقة وضع غترته على رأسه قلَّده فيها بعض من عمل معه!!
وهو «مالك الحزين» نوع من طيور «البلشون» باللغة الهيروغلوفية المصرية المنقرضة.. وهو طائر نادر الوجود «آبد» يحرص على صيد الاسماك.. لهذا فهو بالنسبة لصيادي السمك طائر غير مرغوب فيه لأنه يهاجم «مصائد الأسماك»!!
وصديقنا العزيز (المناع) يأخذ من هذا الطائر ظاهرة «الحزن» رغم أنه يقهقه أحياناً، بضحكة لها خصوصيتها المشوبة بالحزن!!
ويأخذ منه اللون الأبيض لأنه يحب الشواطئ الرملية البيضاء.. ومن تواقيعه المستعارة ابن الشاطئ أما اللون الرمادي فيذكرك بجو مدينة لندن التي لها تاريخ معه.. صوَّره من خلال أسلوبه الخاص به في أدب رحلاته الممتعة لكنه بالنسبة له فهو «الحزن» الذي يعده الحياة بداية ونهاية.. فالطفل حين يولد يصرخ حزيناً.. والإنسان حين يموت يصرخون عليه حزناً.. فإذا كان للحزن لون فلونه رمادي.
مرة دعتنا وزارة المواصلات عند افتتاح عقبة «شعار» في أبها وحين التقطوا لنا صورة كوفد صحافي لذكرى الرحلة وقف خلف الجميع.. فظهر في الصورة بارزاً أكثر ممن كان أمامه لطول قامته التي يغبطه عليها كثير من الرجال.. والعرب تقول «العز في العلالي» كأنه واحدة من نخيل المدينة.
من حبه للموسيقار محمد عبدالوهاب، وأغانيه سمَّى ابنته «سجى»، أو «سجا» لأنها مفردة من إحدى أغاني عبدالوهاب «سجا الليل».. والله أعلم.
يحب الاختلاء بنفسه.. وإذا ضاق صدره ركب سيارته على سماع موسيقى إحدى أغاني «أم كلثوم».. منطلقاً في هدوء، وتأمل إلى طريق المدينة.. هرباً من البيت.. والناس.. والضوضاء.. كأنه الشاعر الكبير «كامل الشناوي» الذي كان مصاباً بالأرق والاكتئاب.. فحين تنتهي سهرته يطلب من سائق سيارته الذهاب إلى طريق الاسكندرية.. فإذا طلع النهار.. وألقت الشمس بذؤاباتها الشقراء على الأرض.. طلب من السائق العودة إلى القاهرة.. حيث يخلد إلى النوم!!
مرة حضرنا حفل جائزة (الأمير محمد بن فهد بن عبدالعزيز) أمير المنطقة الشرقية للتفوق العلمي.. نزلتُ صباحاً لتناول طعام الفطور، فوجدتُ الصديق 0عبدالله مناع) يجلس في «الكوفي شوب» وحيداً.. وجدتها فرصة للجلوس معه مستأنساً بحديثه الرقيق الهامس العذب.. سألني: هل تعودت على الصحو مبكراً؟ رددت بالنفي.. سألني مرة أخرى: ما الذي أيقظك مبكراً؟ رددت عليه: لم أنَمْ!!
وبروح الصديق المحب سألني: لماذا لم تنم؟ قلت له: عوَّدني العمل في الصحافة، ومسؤوليتها.. بمرور الزمن تغيَّر ايقاع ساعتي «البيولوجية».. صرتُ مثل «الشاعر كامل الشناوي».. فنحن لا نعمل في الحياة.. بل نلهث مع طاحونة الصحافة التي لا ترحم.. في النهار نعمل كثور الساقية.. وفي الليل نفكر فيما سنعمله غداً لتقديم الجديد للقارئ الذي لايعجبه العجب، ولا الصيام في رجب.. كما يقول المثل المصري.
يبدو أنه يشاركني فيما قلته، لكنه قليل البوح.. سألني: بِمَ تشعر الآن؟ قلت له: بالملل.. والقرف!!
عندها تحدث كأحد الفلاسفة المجرِّبين قائلاً على طريقته في تكرار شيء مايريد أن يرسِّخه: آه.. الملل.. الملل.. إنه أبرز أمراض العصر.. وما أكثر أمراض العصر.. إنه يعطيك القليل ليسلب منك الكثير!!
سألته: وما رأيك في صاحب كتاب «وداعاً أيها الملل»؟ ردَّ: لا أحب الحديث عنه.
قلت له: كثيرة هي الأشياء التي لا نحب الحديث عنها.. لكننا نثرثر كثيراً عنها في الفاضي، والمليان.. إنها نوع من «الفضفضة» النفسية!!
يبدو أنه أدرك انني متعب جداً.. طلب مني بود أن أذهب إلى غرفتي، أملاً في أن أنام قليلاً من الساعات استعداداً للبرنامج الرسمي الذي ينتظرنا.. شكرته على هذه الدقائق الجميلة التي استأنست فيها بوجوده.. رد الشكر بأحسن منه.. وسرنا معاً.. ودعني ليجلس في بهو الفندق.. إنه يحب التأمل في الناس.. وحركاتهم.. وأشكالهم.. فهو لايعيش إلا مع الناس، وبالناس في أغلب الأوقات.
لا أدري حين يقرأ هذا الحوار سيتذكره.. أم أنه ذهب مع الريح، والنسيان؟.


ص.ب 7967 الرياض 11472

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
تشكيل
مسرح
ذاكرة
مداخلات
المحررون
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved