الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 20th October,2003 العدد : 33

الأثنين 24 ,شعبان 1424

ذرية سوداء للرئيس الأبيض
عبدالسلام العجيلي

أكتب سطوري هذه في الأيام الأولى لزيارتي للولايات المتحدة في هذا العام. يظل الفتى العربي في أمريكا، حسب تعبير المتنبي، غريب الوجه واليد واللسان، وبصورة خاصة في هذا الزمن الحافل بالتوتر من كل صنف ولون.
غيري يتعرف على الأحوال ويطلع على الأخبار من شاشة التلفزيون بأقنيتها الكثيرة العدد هنا. أما أنا فأكتفي بما تحمله الصحافة إلي من هذه وتلك.
وصحافة أمريكا تحمل إلى العربي القادم من بلاده البعيدة ما يثير فيه الفضول، وما يقلقه، وما يحزنه، وما يملأ صدره هماً وغماً.
أترك الذي يبعث القلق والهم والغم جانباً وأتحدث لقرائي عما أثار فضولي واستغرابي وساق إلى شفتيّ الابتسام فيما قرأته أول أمس في جريدة النييورك تايمس. ما قرأته هو عن معركة كلامية ملأت بها الجريدة صفحة داخلية بأكملها بعد أن مهدت لها بافتتاحية في صفحتها الأولى. المعركة تدور حول انتساب مجموعة من المواطنين الأمريكيين هم على قيد الحياة. انتسابهم أبويا إلى رئيس جمهورية أمريكي راحل عن هذه الدنيا منذ ما يقارب مائة وثمانين عاما. الرئيس المعني هو توماس جفرسون، الرئيس الثالث للولايات المتحدة الأمريكية بعد تحررها من الحكم البريطاني واستقلالها.
نشبت المعركة التي أتحدث عنها بعد أن بينت فحوص طبية أجرتها مراجع علمية متخصصة خلال خمس سنوات على دماء طالبي الانتساب الأبوي إلى ذلك الرئيس، وقارنتها بآثار جينية مكرسكوبية لبقايا منه، ومن إحدى الإماء التي كان يملكها واسمها سالي هيمنكز، بينت تلك الفحوص أن توماس جفرسون كان قد واقع عبدته تلك فولدت له ولدا واحداً على الأقل من صلبه.
الفحوص المجراة تقوم على تحرّي مركب (د ن آ) في الدم أو في الآثار العضوية مهما بلغت من الضآلة ومن القدم في المفحوصين، ثم تحرى تماثلها مع ( دن آ) الأب المفترض. فإذا ثبت هذا التماثل ثبتت الأبوة والبنوة بين الطرفين. ولقد انتهت فحوص دماء مدعي بنوة توماس جفرسون، الرئيس الأمريكي الأبيض البشرة، وهم معروفون ببنوتهم للأمة السوداء سالي هيمنكز، ومقارنتها بمركب (د ن آ) عند الرئيس نفسه، انتهت إلى إثبات أن العديد من سلالة هذه الأمة، وكانت عبدة شابة، هم من صلب سيدها الرئيس الذي كان رجلا كهلا. هذا ما قررته المراجع العلمية بعد فحوصها المكررة التي استمرت خمس سنين كما سبق وقلت.
قرار هذه المراجع العلمية بصحة أبوة توماس جفرسون لهؤلاء العديدين من أبناء عبدته جدير بأن يدعو إلى كثير من ردود الفعل، بعضها بالغ العنف، لو أنه صدر في غير الولايات المتحدة، وفي غير الغرب، وفي مجتمعات مثل مجتمعاتنا الشرقية والعربية الإسلامية منها بصورة خاصة.
أول ردود الفعل كان يوجه إلى توماس جفرسون نفسه، مما يلطخ بالسواد ذكراه، وهو المعدود من أبرز رؤساء الولايات المتحدة في تاريخها، إذن فقد كان هذا الرئيس يملك عبيدا، وهو الذي ناضل من أجل منع تجارة الرق ومنع استعباد بني البشر لبعضهم لمجرد أن بشرة هؤلاء ليست ناصعة البياض. ثم إنه كان امرأً مسيحياً متدينا، ومرتبطا بعقد زواج مع عقيلته السيدة مارتا. ومع ذلك فقد عاشر إحدى عبداته معاشرة جنسية وأولدها ولدا واحداً على الأقل، إذا لم يكن خمسة من أبنائها الآخرين من صلبه أليس هذا وذاك كافيين لتسويد صفحة هذا الرئيس المبجل، ولإنزاله من علياء القمة التي يحتلها؟
ولون آخر من ردود الفعل لتقرير المراجع العلمية حول هذه القضية يتعرض له هؤلاء الذين أثبت (د ن آ) دماءهم أنهم أولاد زنى، حملتهم أمهم لا من صلب زوجها الشرعي، بل من صلب سيدها ومالكها الذي هو توماس جفرسون. في غير المجتمع الأمريكي المعاصر يكون رد الفعل في أبسط أشكاله هو إطراق أولاد الحرام رؤوسهم وغضهم أنظارهم أمام الناس خجلا مما أثبتته بحقهم فحوص المراجع العلمية. هذا إلى جانب إشفاق الآخرين عليهم إذا لم يكن احتقارهم والتباعد عن مخالطتهم.
وغير هذين اللونين من ردود الفعل ألوان أخرى لا أريد تعدادها. إلا أن ما أوردته النييورك تايمس فيما نشرته عن هذه القضية لم يتطرق إلى أي من ردود الفعل هذه. ما تحدثت عنه الصحيفة هوالمعركة الدائرة بين أبناء جفرسون من زوجته الشرعية، وأبنائه الذين ألحقوا به مؤخراً. كما اهتمت الصحيفة بالاجتماع الذي دعي إليه هؤلاء وأولئك لزيارة مقبرة آل جفرسون والنصب التذكاري لأبيهم الشرعي وغير الشرعي. فنشرت صور هذا الاجتماع، ووصفت بعض حضوره، وأوردت نتفا من الأحاديث التي تبادلها المجتمعون فيه.
عن المعركة التي نشبت بين شرعيي أبناء جفرسون وغيرالشرعيين منهم تقول الصحيفة إن بعض أبناء زوجته مارتا لا يقرون بالنتيجة التي أعلنتها المراجع العلمية من أن تماثل ( د ن آ) في دماء ذرية سالي همنكز بمركب (د ن آ) عند أبيهم يعني أن توماس جفرسون بالذات هو والد تلك الذرية. ربما كان الأصح أن يكون والد أفرادها هوالأخ الأصغر لتوماس، واسمه راندولف، وهو مالك في دمه (د ن آ) نفسه الذي يحمله دم توماس. راندولف يكون على هذا هو الذي كان يضاجع سالي همنكز، وهو من أولدها من أبنائها ولداً واحداً على الأقل وخمسة أولاد على الأكثر. توماس جفرسون، على ما يقوله أبناؤه الشرعيون، كان رجلا مشهوراً بالحرص على نقاء سمعته وعلى حسن تقدير الناس لأخلاقه وسلوكه، فما كان معقولاً أن ينزل إلى مستوى الاتصال الجنسي بإحدى إمائه ولو كانت شابة وجميلة ومثيرة! إنه اعتراض واه، يرد الأبناء غير الشرعيين على إخوتهم الشرعيين. فإن صلة توماس جفرسون بتلك الأمة كانت تتردد على الألسن منذ كان حيا، وكل ما فعلته الفحوص المجراة على مركب ( دن آ) في دمه ودمائهم أنها أثبتت ما كان يعزو إلى توماس جفرسون في حياته وبعد موته، وما كان يشاع عن أبوته لهم خلال الأجيال المتعاقبة بعد تلك الحياة وذلك الموت...
أما الاجتماع الذي اشترك به عدد من أحياء سلالة توماس جفرسون، فقد ضم مائة وخمسين عضواً من أفراد هذه السلالة، نساء ورجالا، جاؤوا إلى بلدة مونتيتشلو في ولاية فرجينيا ليحجوا إلى قبر أبيهم ويزوروا نصبه التذكاري، بعد صدور قرار المراجع العلمية بصحة بنوة ذرية سالي همنكز لثالث رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية. كان الوافدون إلى الاجتماع من الأبناء غير الشرعيين، على ما قالت الصحيفة، يشكلون قوس قزح في تفاوت ألوان بشرتهم. منهم من حافظ على سواد سحنة أمهم الداكنة وتقاطيعها الزنجية. ومنهم من تدرجت ألوان جلدهم من السمرة الغامقة إلى السمرة الخفيفة حتى يبلغ اللون عند بعضهم وبعضهم الشقرة الواضحة. هؤلاء الشقر من سلالة سالي وبناتها كانوا يترددون بين الفخر بأن أباهم كان في يوم ما رئيساً لأمريكا وبين الحرج من اكتشافهم من أنهم ينتسبون إلى العرق الأسود رغم شقرة بشرتهم. بل إن بعضهم، ممن هن ناصعات البشرة بياضاً، قلن إنهن ولدن شقراوات، وسيظللن شقراوات على الرغم من هذه النسبة إلى سالي همنكز السوداء ومالكها الأبيض توماس جفرسون!.
تعرضت في ما سلف إلى واحد من الأمور التي أثارت فضولي واستغرابي مما اطلعت عليه في الصحف الأمريكية في أول أيام وصولي إلى هذه البلاد. ثمة أمور كثيرة أخرى تستحق أن يقف الإنسان عندها أكثر أهمية من هذه المعركة الكلامية بين أولاد حلال وأولاد حرام. أكثر هذه الأمور الأخرى مؤلم للزائر العربي، كما سبق وقلت، وعن عمد تجنبت الحديث عنها. أتراني أظل قادراً على هذا التجنب وعلى الالتزام بالحديث عما هو مستغرب ومثير للفضول؟ لعلي بهذه النية سأتكلم في المرة القادمة عما قرأته اليوم حول الانشقاق الذي أصاب الكنيسةالأنكليكانية في أمريكا، حين أعلن عدد من أساقفتها الانسحاب من الفرع الأمريكي بسبب اختيار أسقف جديد لأبرشية نيو هامبشير مشهور بشذوذه الجنسي وبتأييده لهذا الشذوذ عند الآخرين!.. أم ترى أن أموراً أخرى أجدر باهتمام من كان مثلي ستصرفني عن الكتابة عن هذا الانشقاق إلى الكتابة عما هو أجل وأخطر؟!
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
تشكيل
مسرح
ذاكرة
مداخلات
المحررون
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved