الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 20th October,2003 العدد : 33

الأثنين 24 ,شعبان 1424

استراحة داخل صومعة الفكر
أيورق الندم؟ سعد الحميدين
سعد الحميدين

صديقي وأخي الشاعر الموهوب الحميدين طرح عنواناً لكتابه على صيغة استفهام دون علامة استفهام لا أدري لماذا؟ إنها اشكالية الكثيرين الذين يضعون قراءهم في حيرة بين الاستفهام(؟) أو التعجب(!) أو النسيان.. ليس هذا هو المهم.. الأهم ان الخطاب النثري الغني استحوذ على صفحات مؤلفه الأنيق دون أن يترك للشعر بضوابطه وايقاعاته إلا حيزا ضيقا يمكن تصنيفه كشعر.. وعلى هذا الأساس سوف أتناول رؤية كاتبنا الابداعية من خلال واقع نثره الأكثر من خلال مواقع شعره الأقل.. «مرجان» أولى لوحاته الغنية التي رسمها في مخيلته وصاغها جملاً جميلة تعبر عن قدرة تصويرته في ترتيب الكلمات.. وربطها كعقد جميل متفاوت الأحجام والأشكال.. من مرجان.؟ وأين تكمن صورته وسريرته؟ من ملامح الصورة الشعرية هذه المرة يأتي التوصيف مروعاً ورائعاً.. الوجه محترق أشبه بالحرة التي قذف بها البركان.. وألقى بها تصطلي بوهج الشمس كشاهدة على تاريخ تتقاطعه الحروف.. وتتنازعه الظروف.. دون أن يعطي جملة واحدة متكاملة يمكن قراءتها.. واستقراءها للوصول إلى فهم محدد..
« يقرؤني في التاريخ الماضي
بالقطعة. والحرف
بالكسرة، والضمة
أحيانا بالفتح
وحينا بالحذف»
ولأن عليه جمع شتات ما تبعثر من كلمات الماضي وأدوات تعريفه عقد في نفسه العزم على أن:
«ألملم أطراف الأحداث
وأنظمها في خيفة الكلمات
حتى تشهق»
وربما أيضا حتى تنطق وتفرج عن مكنوناته ما كان خافيا.. وغامضا.. ومتحجرا.. وتوصله إلى تشخيص البطل.. ناهيك عن بطولته أو ضعفه: ولقد وصل:
«العبد الحبشي الأسود
يمرق في ليلة عيد مع أول مدفع
ينطلق بشيرا بالعيد»..
ليس وحده.. وإنما المشعاب في يمينه، وعلى خصره حزام الأظلاف.. ومن حوله الصبية يتسارعون ويتصارعون اقتفاء لأثره.. وينتهي المشهد بفصل أخير بعد أن عاد من فرحة العيد إلى حقله أي إلى عقله المنتج يحرث. يزرع. يحصد. يحرس. يحمي بمشعابه وبمقلاعه أرضه وعرضه كفارس عنتري يذود عن عبلة.. الأرض.. والوطن.. والتاريخ.
«أخوات كان» ترفع المبتدأ وتنصب الخبر هكذا علمتنا اللغة.. فماذا يا ترى سيعلمنا في عائلة كان بريشته النثرية لا الشعرية.. رغم تدفق المشاعر الحية من خلالها؟!
«لماذا جرى للفارس الجوَّاب حين كبا الجواد؟
وتدحرجت أشلاؤه وسط الطريق.؟
يعض على حبيبات الرمال
وينز بالعرق الملفع بالغبار»..
سؤال مطروح احتار دليلنا فيه.. ولن نلقى أفضل من شاعرنا كي يفك شفرته ورموزه..
انه ينهت.. ثم يزفر.. يرتجي العون.. هل كان متسولا؟ أم متوسلا.؟ أو متحملاً أعباء مرحلة قادمة وشاقة؟ لعلها الأخيرة في خيارات ثلاثة.. وان خانته النتيجة..
«تتراقص الساقات. ترتعشان جبنا
فلا اقتراب. ولا انقضاض»..
لقد تراجع عن حلم علمه في انتظار لحظة أخرى يغير بها بعد أن أنهكه ضعف الغيرة»
المقطوعة النثرية تلفها ضبابية الفكرة.. وتغشاها رمزية موغلة في صمتها.. ليتها كانت أفصح وأوضح..
«أيورق الندم».. المقطوعة العنوان للكتاب أو الديوان.. سمه ما شئت.. في هذه المقطوعة تكاد تتقطع بنا السبل في تيه لا قرار له.. بين الكوة الدهرية. وعمق الجدار. والظلام الذي يتكئ على عكاز.
والعباءة الغبراء. وبصاق الاحقاد. والتجمد.. والصديد الذي يمح. والسياط.. كلها صور مستفزة ومتداخلة.. ومتشابكة لم يَسْتبن معها خيط البداية. ولا ضبط النهاية.. رموز.. وكلماته وحروف متقاطعة اعترف بفشلي في ادراك مدلولاتها.. ولا تحديد اتجاهاتها.. ليس طعنا ولا اساءة في مقدرة شاعرنا ولا في خصوصية صياغته.. وإنما في درجة الارباك التي استغرقتني إلى حد التوهات بين ما أريد.. وما يريد.. ولأن مساحة الارباك كانت كبيرة سأدلل على ما أمكن فهمه:
«تدور كالرحمى. وتقذف الثقال
تقطع الأوصال عنوة على الحدود
الصمت يتكئ على عكاز
يصهره الهجير. حافيا. خطاه تلتوي.
في دوائر تضيق عند كل دورة.. وأين كان الاتجاه فإنما تدور دورة فدورة. الخ»..
وادع الباقي لفطنة المتابع:
«إلى.. ما
ل...ا...ن...هـ...ا...ي.....ة
يصبح ممنوع المرور (لاء)..
وبماذا يصح ممنوع الفهم يا عزيزي الحميدين؟ خاطبنا بما نفهم نحن لا نعرف اللوغارتمات..
ولا نقرأ الفنجان.. اننا بسطاء «نريد ان نقرأك لا ان نحتار فيك إلى درجة اليأس..
«ابتعد عنها ودعني.. يبدو انها أوفر حظاً من سابقتها وأصدق شاعرية وشعرا.. والأكثر وضوحا في رسم الكلمات.. وفي حسم المضامين قياسا بسابقتها:
«غير مُجد
غير مُجد
إنني أخدع عقلي
انني أرغم نفسي
يا ترى كيف أصدق
ان من كان.. وما زال
يدوس البرعم..
يسحق الصخر.. ويكوي الطين
بالنار.. وبالقار المحمي»
لماذا كل هذا التوحش؟ من هو هذا الوحش الخادع الذي يقتل البراعم.. ولا يبقى على حجر أو شجر؟!
انه في عين شاعرنا الحميدين شوكة بشرية وخزته في أكثر مواطن حسه ونفسه وجعا وايلاما انه ذلك الذي يتمادى. ويتطاول، يقرأ الاسفار ويختار منها ما يعتقد انه القادر على ان يحيا:
«ويحيا ساكنا ما يبتغيه
كل أفق في سما التاريخ قد كان قديما
وفي العهد الجديد
الذي كان..
وماذا سيكون؟..
ويجيب شاعرنا بعفويته مستدركا ذلك المتحجر المتوحش لحظة انكفاء واندحار. وهزيمة:
«سيمد الكف يوما
طالبا حقل السلام
وهو من قطف زهرة»
ليس هذا فحسب. بل وقطع الأوصال. وكسر الاغصان. وقذف الحقد مقاسات وأشكالاً»
لقد عرفنا يا شاعرنا النبيل.. انه الرمز لكل متوحش.. ولكل جور.. زدنا من هذا الشعر الجميل زادك الله..
«مغني الكوخ» مقطوعة جميلة أهداها لروح الشاعر محمود حسن إسماعيل:
«وعاشق الكوخ مر من هنا يشير من بعيد
وفي يديه طبلة.. وناي
بأن إلي انصتوا»..
لسوف ننصت إلى شاعرنا في قصيدة وفاء من شاعر إلى شاعر تنبض بالحياة والحيوية:
«ابتعدت صوب الكوخ ابثه غنائية
في الصيف. في الشتاء.
فأنتشي من الطرب
على ايقاع ما أغني
أشارك العصفور. والقمري. والحسون ترنيمة الافراح
ونفحة الاحزان»
ونحن جميعاً كأنت نشاطرك النشوة والامتاع بغنائيتك الشعرية الجميلة لصاحب الكوخ.. ونشاطرك ذكرى شارع رومانسي خلده شعره لأنه من وحي حبه للحياة بجمالها. وجلالها.. ورجالها..
ومن «المغنى» إلى «رسالة من احتضار العقم» عماذا يتحدث.؟ لن استبق الحدث.. ولندع لشاعرنا ان يتحدث هو نفسه بلسان رسالته:
الخطاب نثري بكل ما يعنيه النثر من معنى.. الأسطر مكتملة.. والجمل متزاحمة.. أما المضمون النثري لمقالته فهذا ما نبحث عنه من خلال غوصنا في تجاويف الرسالة المشدودة إلى العقم وهو يلفظ أنفاسه:
«سأقرأ قبل السماع في الابتداء كتابا خطه النكد المثخن بتاء التحية. ثم، وبعد: خطوات تتوارى، تتبع الخطو، ترفو كل ثقب. ينهن الثوب المعَفَّر بالزيف المهلهل صدأ. ملجأ للدود يرعى في مجاريه بما يتسع الإصبع. ولجه يخلب الاقدار طوعا ويؤدي ببقايا، يتعالى... يتطاول يمسك السحب يقطع في ثناياها بسكين التوهم.. يخفي حدها بين اعطاف ثيابه لاكها كلب الزمان. رماها لافظة ما كان... الخ»..
صدقوني.. أنا لم أفهم شيئاً.. لعلكم تفهمون أكثر مني.. أحيانا فهمي معطل لا قدرة لي على اصلاحه..
ومن مقطوعته الغامضة الى الريح حين انكفائها:
«أفق يشوي الأقاليم وقلبي معصرة
ورياح تخلب الريح عصار الأفئدة
وارتعاش يغلق الصخر. ونار موقدة
وتراجيع غراب في سماء مومدة
بين أنياب الزمن»
آه يا زمن كم أنت موحش ورمادي الشكل لدى شاعرنا الحميدين.. كم تمنيت لو انه صافيته ولو مرة واحدة واسلمته الى حضن دافئ من المشاعر يسكن اليه وتطيب له نفسه.. الا انه الشعر والشاعر.. صوت حب.. وصرخة غلب أيهما يسيطر على الكلمات ويستحوذ على المضامين.. لعله قدر شاعرنا ان يعاني ويعاني إلى درجة الادمان.. وضبابية الصورة:
«علني أقدر ان أنصب بيت الكلمات
أبت الأحرف ان تبني.
وإلى البيت البناء
ظلت ممسكا بحطام الحرف
كلما خالج الظن بأني قد قرأت»
هكذا نريدك ممسكا ببقايا الحرف.. فالشاعر ان تخلى عن حرفه تخلى عن صرفه وأصبح دون رصيد..
وهل يملك الشاعر أو الناثر شيئا سواه في قيمته. وقمته. وقامته؟! لا أظن:
«أخرج الوقت من المعطف كوما من صور
بعضها من ورق
بعضها من شجر
بعضها من حجر»
«الورق» اداة.. و«الشجر» نماء و«الحجر» صلابة وقوة.. هرم حياتي أضلاعه ثلاثة.. وقوامه الوسيلة والهدف».. وحصيلته الحياة بما تحمل من سمو ودنو. من نجاح وفشل.. أجل.!
ويخلص شاعرنا الحميدين الى الريح المحتضرة بروح منتصرة في صياغتها للمشهد الحزين:
«تزحف الأسرب منه في اتجاه الريح
أمعنت في الوصف. والزحف يباري لم يقف
أتملى صورة الزحف مع الريح لعل الريح تهدأ»
إلا أنها لا تهدأ. فالزحف إلى الزحف يعود. وكذا الريح إلى الرياح تعود.. لا مكان للسكون في عالم العواصف المتعاقبة.. ولا مقر للبشر في عالم مسكون بالتوحش. والاطماع. واستلاب الحقوق.. وبالعقوق..
«اخصاب» احدى مجموعة مؤلفه. «أيورق الندم»؟
«اصلها ضارب في بطون الأزل
فرعها سامق نحو افق المدى
الزان الذي يتوكأ يمشي. خطاة تُجسم
تنحت في صخرة المختفي تحت ابطه
المراحل.
رغبها يتنزى. وينضح بالعرق اللازب
البارد المستباح»
يبدو ان شاعرنا اختار لرفاق دربه بين حين وآخر ان يسلمهم الى المفازة أملا في حلها.. إلا أنني وأنا واحد من هؤلاء اعترف بعجزي أمام هذه التدخلات والتداخلات. لهذا قررت أن أنسحب من مسابقة الحل بورقة بيضاء أستحق عليها درجة الصفر..
وبعد: اعترف بمشقة الرحلة.. واعترف أيضا بتشويقها.. فيقرن ما سعد به من سعد من واقع عطائه المختلط.. ما أمكن فهمه وهضمه والاستمتاع بجمالياته وتجلياته.. وما كان عسير الهضم على الفهم.. وهو ما أتمنى على شاعرنا أن ينأى عنه لأن الشاعر أو الناثر لا يكتب لنفسه.. ولا يضع أقفالا يحتفظ بمفاتيحها لوحده.. إن رسالته للمتلقي هي أن تأتي أدبياته جلية لا لبس فيها ولا غموض.. وان يأتي خطابه الفكري محاكيا لقدرة القارئ على الاستيعاب..
إن الرمزية المغرقة في غموضها لا تخدم غرضا.. ولا تقدم عوضا يثري الحصيلة ويضيف اليها ما تطمح إليه.. وما تطمح فيه..
أشعر بأنني بقدر الاشادة بهذه الرحلة.. وبهذه الاستراحة في صومعة الفكر.. أشعر انني أعطيت ما أقدر عليه.. أما ما عجزت عنه فأدعه لفطنة شاعرنا الذي أكن له كل محبة وتقدير.. ولهذا صدقته.. وصادقته من خلال رؤية اجتهادية أعرضها ولا أفرضها
وحدثتني يا سعد عنهم فزدتني
شجونا فزدني من قصيدك يا سعد


الرياض: ص.ب. 231185 الرياض 11321 فاكس : 2053338

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
تشكيل
مسرح
ذاكرة
مداخلات
المحررون
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved