الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 20th October,2003 العدد : 33

الأثنين 24 ,شعبان 1424

مساقات
البنية الشعرية عند العرب:
مستوى الصوت والدلالة

أولاً، هذا المقال كان مكانه قبل المقال المنشور في (العدد 27)، بعنوان «لقبا» «المهلهل» و«الشماخ»: بوصفهما حُكْمين نقديين«، لكن «المجلة الثقافية« نشرت الثاني قبل الأول.
1
وقد كان انتهى المساق قبل الماضي إلى أن من يضع لقب «المهلهل» بإزاء شعره يلحظ انطباقه عليه حقاً، لما يتميز به شعره من سهولة وليونة وبديع أحيانا. انظر إلى هذا النموذج من شعره مثلاً(1):
إن في الصدر من كليب شجونا
هاجسات نكأن منه الجراحا
أنكرتني حليلتي إذ رأتني
كاسف البال لا أطيق المزاحا
ولقد كنتُ إذ أرجّل رأسي
ما أبالي الإفساد والإصلاحا
بئس من عاش في الحياة شقيا
كاسف اللون هائما مُلتاحا
يا خليلي ناديا لي كُليبا
واعلما أنه ملاقٍ كفاحا
يا خليلي ناديا لي كُليبا
ثم قولا له: نعمت صباحا
يا خليلي ناديا لي كُليبا
قبل أن تبصر العيون الصباحا
فمع نسبية القارئ ونسبية ما يمكن أن يوصف به شعر من الرقة أو السهولة، فمن الواضح أنه لا يكاد يوجد لفظ في مثل هذه الأبيات غريب أو يتطلب بحثا في معجم، بل لقد صارت بعض مفردات الشاعر وعباراته من دارج العاميات اللهجية إلى اليوم، ك«خليلتي»، «كاسف البال»، «مزاح»...إلخ. ومن الواضح كذلك أن الرجل لا يحفل بالصنعة التركيبية البلاغية في شعره، حتى يوشك أن يخلو أسلوبه من فنون تقديم وتأخير أو حذف أو زيادة، وإنما هو أسلوب يسترسل استرسال الكلام الاعتيادي.
2
وإذا كان هنالك من علّل تلك الرقة والسهولة في شعر المهلهل بأنوثة في طبيعة شخصية الشاعر النفسية والسلوكية، فقد أحال بعضٌ معنى لقب المهلهل إلى عدم تنقيح الشاعر شعره، «فيقال: هلهل فلان شعره إذا لم ينقحه وأرسله كما حضره، ولذلك سمي الشاعر مهلهلاً«(2). وأبرز ملمحين يدلان على أثر هذا المعنى من الهلهلة على شعره: ظاهرة التكرار، وإيطاء القوافي، كما يلحظان في المثال السابق.
وبهذا تبدو الهلهلة الأسلوبية نقيضة لمفهوم الصناعة اللغوية والفنية واعتناء الشاعر بشعره، وتلقيب الشاعر بالمهلهل يدل على موقف ضمني مبكّر ضد الاعتماد على البديهة والارتجال، اللذين يظنّ أنهما كانا ديدن العرب، حسب زعم (الجاحظ)(3) التعميميّ المشهور. تلك المقولة التي كثيراً ما يُخرج بها عن سياقها من المقارنة بين الفرس والعرب، في وجود الكتب ومدارستها لدى الأولين وعدمها لدى الآخرين إلى المباهاة بالغلوّ في تصوير العرب رعاعاً عهملا، لا مسكة لهم من تفكّر أو طول تأمل، ملهمين تنثال عليهم فنون القول البلاغي انثيالا! ولقد كان الجاحظ نفسه أول الخارجين عن سياقه، حينما قال عن العربي في عبارة عجيبة في وثوقيتها مع سقمها وافتقارها إلى منطق الأشياء والطبائع البشرية: «وإنما هو أن يصرف وهْمه إلى الكلام.. فتأتيه المعاني أرسالا، وتنثال عليه انثيالا»!
ها قد لُقب أول الشعراء الجاهليين ب«المهلهل« ووصف شعره ب«الهلهلة«، لما تبدى في أسلوبه من اكتفاء بالبديهة وعفو القول، دونما احتفاء بما ينبغي للنص الشعري بوصفه لغة فارقة وبناء فنياً مركباً من صنعة فنية لا ترضى منه بما ينثال للشاعر من خاطر أول وهلة. ومن خلال هذا كله يلمح ما يكمن خلف لقب «المهلهل« من وعي نقدي بطبيعة الشعر، بنظامه اللغوي والأسلوبي الفني الخاص.
3
ويتجه أحد مفهومات لقب «المهلهل» إلى الخاصية الموسيقية لشعر (المهلهل). فقد «كان أحد من غُني من العرب في شعره»(4).
وهلهل الصوت: رجّعه(5). وأكثر من هذا ما يشير إليه (الدمنهوري)(6) في حديثه عن «علم القوافي»، من أن «واضعه: مهلهل بن ربيعة، خال امرئ القيس»، ويرْدُف هذا قولهم: إنه كان أول من قال الغزل(7)، لارتباطه بالغناء، وأول من أرقّ المراثي(8)، لارتباطه بالنياحه وغناء النَّصْب أو العقيرة(9).
وبذا يتركز مفهوم الهلهلة على المستوى الصوتي الموسيقي في بنية الشعر. (وهو ما سيتطرق إليه البحث لاحقاً).
4
إلا أن بعض المدْلين بقولهم حول مفهوم الهلهلة ولقب المهلهل بن ربيعة قد رأوا فيه إشارة إلى المستوى الدلالي الخيالي من الشعر. قرأوا في «الهلهلة» مرادفاً للكذب، مستشهدين بقول (النابغة الذبياني)(10):
أتاك بقول هلهل النسج كاذب
ولم يأتك بالحق الذي هو ناصعُ
فقالوا إن المهلهل هو أول من كذب في شعره(11)، مشيرين إلى المبالغة والتخييل في الصورة الشعرية، حيث يقول:
ولولا الريحُ أُسْمع أهلُ حجرٍ
صليلَ البيضِ تُقرعُ بالذكورِ
فقد عدّوا هذه الصورة في باب الغلوّ، وأنه أؤل كذب سُمع في الشعر (12). أو قالوا: «إنه أكذب بيت قالته العرب، وبين حجر وبين قصبة اليمامة وبين مكان الوقعة عشرة أيّام«. وذهبوا يقارنون بين صورة المهلهل هذه وقول امرئ القيس:(13)
تنورّتها من أذرعاتٍ وأهلُها
بيثربَ أدنى دارها نظرٌ عالِ
قائلين إن بيت المهلهل «أشدّ غلوا.. لأن حاسة البصر أقوى من حاسة السمع وأشد إدراكا»(14)
كما عدّوا من غلوّه أنه قد طالب خصومه بردّ كُليب إلى الحياة بعد قتله، لما قال:
قلْ لبني حصنٍ يردّونهُ
أو يصبروا للصَّيْلمِ الخَنْفَقيقِ(15)
1 المهلهل، شعر المهلهل، (ضمن شرح ديوان امرئ القيس، للسندوبي، 1982)، 268269.
2 ابن منظور، لسان العرب، (هلل).
3 انظر: البيان والتبيين، (تح. هارون) 3:28.
4 الأصفهاني (1983)، الأغاني، (بيروت: دار الثقافة) 5:49.
5 انظر: ابن منظور (م.ن).
6 انظر: الارشاد، 23.
7 انظر: الأصفهاني، م.ن.
8 انظر: أمالي القالي، (بيروت: دار الكتاب العربي)، 2:129.
9 انظر في هذا: ابن منظور، (نصب).
10 انظر: م.ن، (هلل)، والبيت في: ديوان النابغة، (عناية: عباس عبدالستار)، ص55:3.
11 انظر: ابن قتيبة، الشعر والشعراء، (تح. شاكر)، 297، والأصفهاني، م.ن، والقالي، 2:134.
12 القالي، م.ن.
013 شرح ديوانه للسندوبي، ص161:1.
14 انظر: ابن رشيق، العمدة، (تح. عبدالحميد)، 2:62.
15 انظر: ابن قتيبة، م.ن.


aalfaify@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
تشكيل
مسرح
ذاكرة
مداخلات
المحررون
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved