الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 20th October,2003 العدد : 33

الأثنين 24 ,شعبان 1424

رواية الحصون (ديك الشيبة) وجدلية التغييب «22»
في ذكرى المشري رحمه الله
* عثمان جمعان الغامدي:
ومن خلال رؤيتنا للعنوان الكبير (الحصون) و الذي يتروي تحته العنوان الآخر للرواية (ديك الشيبة) نجد انبجاس التغييب من تلك المرحلة في الرواية، ونستطيع عرض أوجه التغييب في الآتي:
أولا: إهمال أسماء الشخصيات، فمع إصرار المحللين البنيويين على أهمية إرفاق الشخصية باسم يميزها ويعطيها بعدها الدلالي الخاص، فقد جاهد الكاتب في تغييب الأسماء لشخصياته، واكتفى بإطلاق أسماء الصفات الوظيفية في السرد، فباستثناء شخصيتين غير فاعلتين سواء على مستوى السرد أو على مستوى الحبكة، وهما الجار أبو راشد، ومريم اللذان لم يذكرا إلا مرة واحدة، لانجد سوى الديك، وبمجرد كشف مسؤولية رواية القصة نجد الرواية اعتمدت على راويين، أي تقنية القصة داخل القصة hypodiegetic فالراوي الأساسي الذي اقترحه الكاتب، واعتمد عليه في عرض السرد يروي القصة بضمير الغائب، أما الراوي الآخر فهو الذي نقل القصص التاريخية إلى (الصاحب) وأبرزه الكاتب تحت اسم (المحدث). أما الطرف الآخر الذي كان بمثابة البطل الثاني في الرواية بعد الديك فهو (الصاحب) وهو الذي كان يتلقى القصص التاريخية من (المحدث) كما أنه شكّل فيما بعد مع الديك طرفي الصراع داخل الرواية، وهنا لا تبقى الشخصية تابعة للحدث أو منفعلة به، وإنما أصبحت جزءا مكونا وضروريا لتلاحم السرد، ومع ذلك فلا يتعدى ذكر تلك الشخصيتين عن (المحدث) و (الصاحب) أو (يامحدثي) و(ياصاحبي) في كل الرواية، ولكن الاسم الصريح والمميز الذي يتكرر في كل الرواية هو اسم الجنس (الديك)، وهو أيضاً شخصية مكثفة، بينما تبقى بقية الشخصيات بدون أسماء صريحة، «فالمؤلف يسند إلى شخصياته رتبة محددة حين يجعل منها شخصيات رئيسة وأخرى عابرة، وهذه الضرورة الشكلية تفيد القارئ في أن يبحث بالفطرة عن هذه التراتبية بين الشخصيات. وهكذا يكون الديك بسبب ورود اسمه على الوضع الذي سبق هو البطل الرئيسي الذي تتمحور حوله أحداث الرواية، بينما يكوّن (الصاحب) البطل المضاد، وهذه الثنائية التي تشكل أطراف الصراع داخل الرواية، تنشأ عنها علاقة جدلية بين الصاحب الذي يزور محدثه لإشباع شهوة بطنه، بعد أن كان وكده قبل ذلك إشباع حاجته المعرفية، وبين الديك الذي لم يتمكن منه (الصاحب) سوى مرة واحدة، وبقي في المرات القادمة يكون له عنصر التحدي، فحرص (الصاحب) على النيل من لحمه في دعوة من دعوات العشاء التي يقتنصها، ولكن محاولاته لم تفلح في ذلك.
ثانياً: تغييب المحدث للصاحب، ومن دلائل التغييب التي بدت في الرواية أن قرية (الصاحب) وكل ما يتصل به لم تذكر في الرواية، وحتى عندما ورد في السرد ذهاب (الصاحب) إلى بيته لا نجد شيئا يؤثر في سيرورة السرد، فنجده يعتمد على القفزات السردية التي تلخص لنا وبشدة الفترة التي قضاها في شؤونه بتغييب تام لما قام به الصاحب «وبعد يوم قضاه الصاحب في شؤونه جاء، وكان قد استيقن من ملاءمة اجترار الحكايا في نفس محدثه» ص(46). كما أنه عند وصفه لوصول (الصاحب) إلى بيته يورد ذلك بإيجاز شديد»... ومشى ثابتا إلى أن فتحت زوجته بعد تيقن باب الدار فألقى كل شيء ثابتا مطمئنا، و..نام بلا أحلام»ص(75) كل ذلك يتم في بيت (الصاحب) بهذه السرعة، مع أنه تفلت من إصرار (محدثه) على المبيت لديه، ولم يكن إصرار الصاحب على الذهاب إلى بيته إلا من أمور جليلة، جعلته يسري «وها إن الصاحب يستجمع بقايا نشاط آخر السمر، ويتهيأ ساريا إلى بيته، فيعرض عليه محدثه البيات، ويزيد «عليك وجه الله» ولكن الصاحب يرد حلفانه سريعاً فامرأته في الدار حمّالة الهم والتعب، وفي أولاده من ألقته الحمارة عن ظهرها وهو عائد بها من الوادي، وأصابه دوار ورضوض، ويخاف عليه» ص(72) وعند عودته مرة أخرى يسأله المحدث عن حال ولده ذاك، فيكتفي بالإجابة اليسيرة عنه بحيث لا تتساوى وحجم ما أجبره على السير في ذلك الخوف «تساءل الصاحب من محدثه عن وضع ابنه الذي ترضض إثر سقوطه عن ظهر الحمارة، فقال إنه طيب»ص(75) ويفسر لنا سبب ذلك التغييب شبه التام للصاحب أنه في بيت المحدث فالمحدث يمثل مسار الحصون، وهذا المسار كان له دور تغييب (الصاحب) واهتمامه بالديك، ولذلك جاءت ممارسة التغييب في كل علاقة تمت بين (الصاحب) و (المحدث)، أو بعبارة أخرى بين ماله علاقة بالحصون وماله علاقة بالديك..
ثالثا: دعاء (المحدث) على الديك وشتمه وعدم قبول (الصاحب) بذلك، وهذه تبرز من خلال مقاطعات الأصوات التي تصدر عن الديك والدجاج المنتشر في الساحة للمحدث» أذن ديك في الساحة، فاستيقط خاطر الصاحب، وصعد الانتباه على لسان محدثه، فصاح بالدجاج الكامن في تفرق حميم منهما، شاتما أذان الديك الذي بدا أنه بصوت مراهق يتعلم الغناء، وكان محدثه يتجهز للانغمار في حكاية سأل عن نسيج أمورها الصاحب، فقاطعه أذان الديك. التفت إليه الصاحب وهدم كلاما مرتبا على محدثه، وقال: لا عدمتك يامحدثي.. إني قرأت في كتاب قديم لحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وقتما صرخ في مجلسه ديك، فسبه الصحابة، فقال: لا تسبه فإنه يدعو إلى الصلاة»ص(61) نجد فيما مر أن (الصاحب) يهدم كلاما مرتبا عن إجابة لإحدى أسئلته حول الصحون، وهذا هو الغرض الأصلي الذي كان يجيء بالصاحب قبل أكله لحم الديك، فيلغي (الصاحب) كل رغباته المعرفية ليضيف معلومة يهمه أن يعمل بها (المحدث) أو قل لينبه المحدث إلى الأهمية البالغة لهذا الديك، الذي قد يكون في يوم ما لقمة هنيئة.
بهذا نجد أن الحصون كونت تغييبا لديك الشيبة، ومع ذلك فإن اندغاما تشكل بين مساري السرد، سواء أكان ذلك على المستوى الظاهر في السرد نحو ربط علاقة بين عرف الديك مع الطربوش للتركي نحو «وبعد يوم قضاه الصاحب في شؤونه جاء، وكان قد استيقن من ملاءمة اجترار الحكايا في نفس محدثه، ويتوق إلى التعرف على ذيل حكاية الجار التركي. وبما أن رجل الديك تجيء بالديك وأن طربوش القتيل الأحمر رمز خيلائه وعزة نفسه وتاج أنفته... فشوق الصاحب يشتعل لنهاية لائقة بالحادثة»ص(46).. أو تكون العلاقة من ناحية العلامات بين الحصون رمز الحرب والقوة في كل القرى التي تتمتع بوجودها داخل حدودها، ورمز المنعة والاطمئنان من براثن عدو يغزو القرية، والديك الذي يعد في بعض خصاله رمزا للغيرة والقوة، كما أنه يمثل وجها من أوجه الانتصار فالجاحظ يروي من خصال الديك «الشجاعة، وفي الديك الصبر عند اللقاء... وفي الديك الجولان، وهو ضرب من الروغان، وجنس من تدبيرالحرب، وفيه الثقافة والتسديد، وذلك أنه يقدِّر إيقاع صيصيته (وهي شوكة في رجل الديك) بعين الديك الآخر، ويتقرب من المذبح فلا يخطئ».
الحصون شيدت في القرى للحروب، والاحتماء بها، وهي تمثل منعة القرية، بينما الديك، أو ديك الشيبة يمثل في مساره الآخر شعارا للحرب باستثمار الإرث الثقافي الذي أسبغ على الديك، فإذا كانت الحصون تمثل الحرب في الشكل الظاهر لها والمباشر، فإن الديك هو الآخر يمثل الحرب، بشكل غير مباشر، بل يأتي انتصاره في نهاية الرواية تأكيدا لتلك القوة، والشجاعة، عندما انتصر على الصاحب، ولم يأكله.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
تشكيل
مسرح
ذاكرة
مداخلات
المحررون
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved