Culture Magazine Thursday  01/12/2011 G Issue 354
مراجعات
الخميس 6 ,محرم 1433   العدد  354
 
استراحة داخل صومعة الفكر
«قاب حرفين».. و»البحر والمرأة العاصفة»
سعد البواردي

د. عبدالله الوشمي

192 صفحة من القطع المتوسط

على منوال «قاب قوسين أو أدنى» اصطفى شاعرنا الإبداعي «قاب حرفين» وكلاهما المعيار لمسافة ولمساحة لا تبتعد كثيراً.. بل وأكاد أقول ولا قليلاً.. فالسهم في مرماه.. والفهم في مؤداه.. والفارس في حلبته قاب حرفين أو أدنى من حصاد معركته الشعرية:

بداية مع العنوان الأول لديوانه ومع مفردات من كتاب المطر:

ما الذي يتكسر داخل غصن الخزامى؟

عندما تعزف القطرات نشيد الرحيل..

لا شيء أكثر من حزن ثقيل يودع به المطر.. ويستقبل الخوف أن لا يعود ليعيد إليه الحياة من جديد. وعد من كتاب:

والسماء التي سوف ترسل أبناءها للتراب

والتراب الذي ليس يحس غير الدموع

سوف يصبح أحلى كتاب

أبناء السماء قُطر.. ودموع التراب ومن على التراب شكاية.. ومرارة. وقهر.. مفردات حياة مزيج ما بين ألم.. وأمل ولحظة انتظار.

هكذا قالها شاعرنا فأوجز.. وأصاب:

حين تبكي السماء فلا شيء غير المطر ليترجم أحزانها..

في مقطوعته الرثائية الجميلة لوالده الشاعر الذي عرفته وقدرته يقول في أحد مقاطعها متساءلاً:

يا أبي أتساءل:

هل موتنا والرحيل إلى ما يُغيب احتفال؟

نعيش تفاصيله.. ثم نحمل أشياءنا ونعود؟

أتساءل كم مرة سوف ندفن؟ كم مرة نلتقي؟ يا أبي؟

علامات استفهامات مهملة أعدتها نيابة عن شاعرنا الموهوب:

على قدر أهل الموت تأتي المصائب

وتأتي على قدر الثمار المناجل..

على نسق على قدر أهل العزم تأتي العزائم. وتأتي على قدر الكرام المكارم.. يا عزيزي الموت بمثابة المنجل مهمته اقتلاع الحقل البشري من خلال مراحل.. لا أحد في منجاة منه.. كلنا ذلك الأهل.. وكلنا ذلك المحصودون بمنجلة.. كنا أيتاماً. وغداً أبناؤنا أيتام.. وهلم جرا.. تلك هي سنة الحياة وحكمة الله في خلقه.. إنه القدر.. ومن بكائية الموت إلى احتفالية القلب:

إلى التي قد أثارت في دمي ألقي

وسافرت كالرياح البيض في ورقي

نفثتِ يا ربة الأشعار في مدني

سحراً. وطرق كما أنشودة الفلق

سفينة كنتِ والأمواج تدفعها

من شاهق خطر مر إلى أفق

لا. لم يزل طيب الأشواق في شفتي

معلقاً. ها أنا في آخر الرمق

خمس تساقطن من عمري وراحلتي

ترحلت ودماها صرن في عنقي

أبيات مجتزأة تلخص القصة الوجدانية بكل ما تحمله من أشواق وأشواك عانى منها شاعرنا كغيمة ممن يحبون.. أليس الحب صب؟!!

ومن «فواصل لا تكتمل» أختار منها هذا المقطع عن قريته:

قريتي. وملامح بيتي. وابتهالات جدي

وزيارة أمي لجاراتها. والصغير يشاكسها في الطريق

وعصا تتوكأ فيها سنون الطفولة.

لا أدري إذا كانت لسنوات الطفولة من عصا.. أحسبها لسنوات الكهولة.. إلا إذا كانت تلك العصا لردع الصغير عن المشاكسة!

«سورة ياسين» عنوان لمقطوعة طويلة..منها:

كان أحمد نجماً تسلل نحو الصباح

على غرة من جنود الظلام

كان يكتب للعاشقين يسائلهم. ثم يبكي لهم

ولهم كان يُولد في كل عام.

دلنا عليه نحن في عالم نجومه أرضية لا سماوية.. ما أحوجنا إلى من يُبكينا لا من يبكي علينا هازئاً وساخراً.. رسائل العشق باتت مبتذلة:

«خلود» تعود بنا إلى كهف الأحزان العاطفية.. وما أقساها على النفس:

سيدة الحزن. مضى عمرنا

ونحن من أسفارنا لا نعود

قاربنا أحرق مرساته

في بحره ألف نهار وليد

مبحرة فيه رسالاتنا

والبحر من أشواقه يستزيد

بريدنا كان لنا روضة

ياما سرينا نحو ذاك البريد

لا تسأل الشاعر عن حبه

كم مات. كم قد غره من شهيد

مفردة «غره» في الشطر الأخير أحسبها غير مناسبة.. حبنا لو أختار «كم فاته».. هكذا الشعراء يقتلهم الحب بشعره.. ويحييهم أيضاً بشعره..

إنه موت أبيات. وبيات ما يلبث أن يتحول إلى مجرد مناكفات ومساجلات منسية..

«بحور» عنوان جديد يحتمل أكثر من معنى.. بحر الماء. وبحر الشعر. أختار من بحوره ذلك البحر الذي لا حياة فيه:

البحر الميت كان يمر على جسد الحسناء. فيصحو

كان يخالسها النظرات. يغازلها بالموت.

وحين تفاجئه ببياض الحقل يموت..

على نفسه جنى البحر.. لا أحد يغازل بالموت. وإنما بالقبلات.. والأمواج الدافئة التي تبث ألحاناً مدها لبياض الحقول.. أخاله ميت الوجدان!

ومن البحر إلى النخيل.. والشاعر:

يكتب النخيل آياته فوق سعفاته

ثم تمطرنا كل يوم بأخباره

ثم يمضي.. ولا شيء يبقى سوى الجذع نحنو عليه

ونحبو إليه.. نحنُّ إلى قبلة من يده

شاعرنا يهز إليه وبيديه جذع النخل في حنو إلى رطبه الجني الشهي.. وعلى فمه شطر وداعه الأخير:

ولا شيء يبقى سوى النخل نمسح أعناقه تائبين..

عجباً أن نفعل ما يستحق التوبة لمن زودنا بزاده!

«ذاكرة لشوارع منسية» أختار منها «وطء» كي نخفف وإياه الوطء، وفق نصيحة «أبي العلاء المعري»!

خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد..

يقول فارس رحلتنا المشبع بالحيوية:

خفف الوطء هذا دمي في أديم الشوارع يسأل:

كم قاتلاً سوف يدهسني؟!

خفف الوطء هذي عيوني أنا في أديم الشوارع

كم تتوسل أن ترحموا الميتين.

مسكينة تلك الشوارع بحفرها. وترابها.. وخرابها.. لا بد من صوت نجدة وإيقاظ تعيد إليها صحتها وعافيتها وسلامة سالكيها.. من أجل المسالمين.. لا القتلة الذين يطأونها ويشعرونها بالمذلة.. حتى التراب والشارع تراب يحب النظافة في كل شيء.

أليست الأرض بمثابة الأم.. والأمومة رعاية. وبر..

«امرأة لا حصر لها» قلبها كبير وحبها كبير بحجم عالمها الأسير.. إنه يحاورها وتحاوره:

متفائلاً قد كنت في هذا الصباح

كفي على قلبي. وقلبي في يدي أمي

وأمي لم تزل تبكي.. وتغزل من مواويل الجراح

وتقول: يا ولدي اصطبرها إن أحرار الكفاح

سيسافرون على جراحهم. ويلملمون دموعنا

بمنظور وبمنظار البراءة كانت تتكلم. وتتألم.. هذا ما قالته.. وهذا ما قاله عن أمه:

مسكينة أمي. كانت تغني وهي لا تدري

بأن دقيقتين هما نهاية ما تراه في الصباح

كم عذبوك. وكم تتاجر كل راقصة

بصوتك.. والصراخ هو المباح..

لا لوم على والدتك.. الحلم الساكن في قلبها.. والأمل المجنح في دواخلها دعتك إلى الصبر على أمل.. وما كانت تدري أن عالمنا ظاهرة صوتية.. دونها رحمة وشفقة الظاهرة الصمتية..!

ومن نخوة الأمومة إلى رقة البنوة وعذوبتها:

قبليني بنيتي قبليني

أنتِ أحلى والله من ياسمين

قبليني فهذه الأرض عطشى

والمنافي موعودة بالمزون

منذ عامين والبراري قفار

ويد الغيب لم تلامس عيوني

عرسها. عرس من؟ كانت الأ

رض مخاضاً يمتد وسط سكوني

قبليني فسوف يختصر الشعر

حديث المحب والمجنون

ويمتد به الوله. والحنين لفلذة كبده.. يبثها شدوه وشجوه:

أنا والقلب متعب ذبلت شد

قاه. وامتد في لظاه حنيني

إنني والد. وسحر حبيبي

فاض كالبرق في ضباب القرون

واختتمتها بهذا البيت الجميل المعبر:

كنتُ قلباً معذباً. كنت لا شيء

فقولي: من كنتِ أنتِ بدوني؟

وعبر عنوان «أقلام» يقول شاعرنا الوشمي:

الحروف بقايا دموع القصائد

والحروف إذا أثقلتنا السنون تكون لنا كالوسائد

كل هذا الركام قدور. وهذي الحروف مواقد

تلك رسالتها يا عزيزي.. هي قام بواجبها.. أدت وظيفتها..حتى على البكاء وهي تشهد الأطلال.. وبقايا الرجال.. وأحمال الأثقال على الأقدام المجهدة.. لا يهم أن يتوسدها.. ولا أن يأكلها العاجزون تلك مشكلتهم وحدهم..

ما قالت الأرض. شيء من كتاب عشقه القديم:

كنت مملوء بحجر العشق والشعر

ولا ظل سوى تلك السحب

مالئاً دربي بأنهار الهوى

ويدي بالنار والليل لهب

وفمي بالحب مذ كان فتى

ذبلت أشواقه. والقلب شب

أنا. والقلب في قافية

حرة حيناً. وحيناً تستلب

موغل يا بلدي في حزنه

أو ما هزت نخيلاتي الرطب؟

هذه الأرض على قافلتي

رقصت وامتد نهر من طرب

أبيات يتقاطع فيها الحزن والرضى.. ورؤية تجمع بين عذوبة حلمه.. وعذابات علمه.. انتصر فيها الحلم على رقصة القافلة وإيقاع الطرب.

في مجموعته الثانية (البحر والمرأة العاصفة) بداية مع مقطوعته الوطنية المعبرة أجتزئ منها بعضاً من أبياتها:

وطني عندما بدأوا يعزفون على الحب أوتارهم

كنتُ وحدي أغني على معزفك

أترقب أن تكتب الأرض ديوانها في عروقي

وأن تلد الأم فارسها في سكينة

إنني قارئ الرمل. والشعر يا وطني

وغداً سوف يغمرنا المجد والطمأنينة

كما قلتُ يا وطني. أخرج القلب عصفوره وعيونه

ومَن كالوطن لا يغني له أبوابه.. ومن كالوطن لا تطير عصافير المحبة.. وعيون الحماية.. ويغني على معزفه.. الوطن هو إنسانه وتاريخه..

ومن أوراق سيرة البدوي الذي عانق الشمس يقول متسائلاً:

من أين جئت. رياح الجيد ظامئة

والرمل يشكو. وأكداس حكاياتي

من أين؟ سر الصحارى فيك أعرفه

ولونها. ودماها فيك أبياتي

يا سيدي الرمل في كفي وفي كبدي

حدِّق. ستبصر في عينيْ حبيباتي

في الرمل سري وأشواقي وأشرعتي

وفيك يا موجي الرملي ثاراتي

هذا التراب رحيق الأرض ما أحد

يمسه دون أن يروي رسالاتي

بهذا الزخم من المعطور الشعري جاء بوجه منتمياً.. قوياً يلامس شغاف قلبه بعدد ذرات رمله وترابه.. إنه الحب بلا حدود..

ومن المقطع الأخير من سفر الرجل العظيم يقال شاعرنا الإبداعي عبدالله الوشمي:

إذا مت يبقى من هديل حمائمي

حنين ويبقى من صداك بريقي

إذا قلت مالي أيها الليل موجعي

تغنى زمان في مسيل عروق

وتنمو على سحر الصحارى حدائقي

ويُزهر ليمون الأسى وبروقي

وسر أينما لا بد تحظى برفقتي

وفي شفة السارين بعض رحيقي

يسافر شاعرنا حاملاً وطنه معه.. لا يبرحه.. إنه دمه الذي يجري في شرايينه وعروقه.. إنه دمعه الذي ينساب على خديه. إنه صوته الذي يرفعه.. وإنه ضميره الذي يسمعه.. وإنه وجوده الذي يجود من أجله بكل غال ورخيص.. الصحارى رمز وطن.. وتراب. وتراث..

في أوراق من سيرة امرأة هذه الأبيات:

الفتاة التي ذبلت عينها في انتظار الحبيب لم تزل واقفة

لم تزل تكتب الشعر في زوجها المستحيل

لم تزل واقفة مثل جذع النخيل

ساكنا أيها البحر. لكنها المرأة العاصفة

هكذا تخلق المعاناة روح تمرد لا تهاب العقابيل.. إنها إرادة التحدي الذي لا ينكسر له شوكة حتى في وجه الرياح العاصفة.. المرأة العاصفة عندما تثور تتداعى لثورتها الأشياء كل الأشياء لأنه قدرها الذي فرض عليها حرارة الشوق. ومرارة الانتظار.

للشعر نبوءة تحدث عنها فارس رحلتنا:

ابتسمي تبتسم الدنيا

وينام على كفي القمرُ

وتجيء طيور وزهور

ويغرد للقربى شجر

العشق سيبدأ موسمه

في عينك فالدنيا مطر

ورعود تبدأ قاصفة

ورياح فينا تنتحر

يا حزنا أبداً أحمله

في عيني. والدنيا قدر

راحلة أنتِ كعصفور

تاه فلا أرض أو شجر

في بحر حنانك هاسفني

ولهى ورصيفي ينتظر

حمل ثقيل ناء بكاهله.. عشق. ورعود. ورياح. وحزن. وتيه. وأرض جرداء.. ووله وطول انتظار ومع هذا تغالب البسمة كي لا يقنط.

أخيراً.. مع فاتحة الحب:

أصحابك ماتوا. فارجع لتنام وحيداً في بيت

يغشاه الأشرار يريدون دمك. لا تدعُ عليا

ما عاد علي يرضي أن يصبح كبشاً بعدك!

قم واجه مجهولك وحدك. قم حرر نفسك

حررها. واصنع من موتك مجدك.

يريد شاعرنا أن يقول: اطلب الموت توهب لك الحياة.. إنها دعوة للصحوة وللقوة في سبيل الحرية. والحق.. يمضي في دعوته:

لا: لا تذرف دمعك

مفتاح الكعبة ما زال بأيدي شيبة. قد صدق الله

فجاهد نفسك. كي تدخل في بيت الله..

إني أبصر في عينيك سؤالاً.

وأرى تحت لسانك تنتحر الآه

هيا تمتم.. الله. الله

بهذه الدعوة المستفزة لكل خمول ووهن. جاء صوت شاعرنا مجلجاً كالرعد.. وامضاً البرق. هادراً كالموح من أجل أن نحيا كرماء أقوياء كي يحترمنا الأقوياء ويحسبون لنا ألف حساب وحساب.

وبعد: أقول لعزيزي الوشمي كنت رائعاً في شعرك.. وفي نثرك الغني.. أثريت الفكرة بمفرداتك.. أغنيت الرحلة بخطابك الممتع.. والمشبع بروحه.. وبرياحه.. بعذوبته وبعذاباته.. وجهان لعملة واحدة اسمها الحياة نطعمها نحن الأحياء بين متحدٍ وبين متردٍ لا يملك مجاديف يحرك بها زورق عمره وصولاً إلى مرفأ السلامة والأمان إن استطاع إلى ذلك سبيلاً.

الرياض ص. ب 231185 الرمز 11321 فاكس 2053338

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة