Culture Magazine Thursday  01/12/2011 G Issue 354
قراءات
الخميس 6 ,محرم 1433   العدد  354
 
الرواية والمدينة السعودية (2)
سيمون نصار

خلصت معظم الأبحاث والدراسات التي أنجزت حول علاقة الرواية بالمدينة على أن هذه العلاقة مبنية على القلق. فهي أي الرواية، إن خاطبت المدينة، فإنها تخاطب فضاءً خاصاً يخاطب بدوره فضاءً آخر. وهذا يجعل من العلاقة المتوازية بينهما، مبنية على القلق في حالة الأعمال التي تتخذ من المدينة منجزاً سردياً كاملاً، وعلى الإرتباك في حالة الأعمال التي تقطف لنفسها نماذجاً مدينيةً فتعمل فيها مبضعها تشريحاً وإختلاقاً.

غاية السرد بهذا المعنى، التوصل إلى خلق معادل موضوعي للمدينة على الورق.

في حالات كثيرة، من الرواية المكتوبة خارج العالم العربي، كانت الرواية تلعب دور الكشاف الذي يضيء على نقطة بعينها من نقاط المدينة, مثلما كان يحصل في روايات بلزاك المؤسسة للرواية الفرنسية الملحمية وصولا إلى آلان روب غرييه والرواية الفرنسية الجديدة في النصف الثاني من القرن العشرين، ذلك حتى نصل إلى رواية « إسم المترو « للوران دوتش الذي لم يكتف بإنتشال شخصية مدينية واحدة تتقاطع مع عدد من الشخصيات الأخرى. بل أخذ المترو في باريس كمحرك لشخصية واحدة مثلها الكاتب نفسه ليدور في المدينة كما لو أنه يرسم خريطة للسياح.

هذا التطور في طريقة تعاطي الرواية مع المدينة، لم تفرضه الرواية، ذلك أن الرواية هنا، ليست سوى المرآة التي تقف أمامها المدينة، فترى نفسها وتري الآخرين جمالها أو بشاعتها وكذلك كل ما يعتمل داخلها، حيث البشر يدورون ضمن الآلة الكبيرة التي تسمى المدينة. بل إن المدينة هي من أنتج هذا التطور وذلك نتاج تطورها نفسه. هذا التطور الإجتماعي والهندسي والبيئي والسياسي هو الذي جعل من وجه المدينة في المرآة يتغير ويتبدل كما لو أننا نضع إمرأة أمام المرآة قبل تصفيف شعرها وبعده.

المدينة السعودية خلقت أيضاً روايتها.

في « ترمي بشرر « لعبده خال. يصل الروائي إلى فرز للمدينة بالغ الدقة بين الما قبل والما بعد. بين المدينة كذاكرة والمدينة كواقع معاش. وفي حالة هذه الرواية، التي يؤنسنا عبده خال بها، يتغير حتى مستوى السرد بتغير حالة المدينة، وهو أمر انتبه له خال على الأرجح أثناء الكتابة. ذلك أن النص نفسه هو ما يشعرنا به. ورغم حالة الارتباك التي تظهر في نهاية الرواية حين يسعى خال لتأكيد وجود نموذجه في الواقع. فإن النص نفسه يذهب بنا إلى هذا الواقع من خلال نظرتنا ومعرفتنا للمدينة نفسها، لولا أن الدراما التصاعدية التي حققتها كتابة خال، نفسه، ما كانت لتتوفر في التصورات الذاتية عن المدينة. نعود مع الفكرة نفسها إلى رواية « فخاخ الرائحة « ليوسف المحيميد، التي حاكت وجودها لتكون العين الخارجة عن المدينة. تلك العين التي تنظر من علٍ إلى الرياض التي تعيش تبدلات طبقية وعرقية ونفسية ولكن في قالب حكائي خالص، يأخذ من المدينة ما يريد لا ما تريد هي أن تعطيه. لنصل إلى رواية « كائن مؤجل « لفهد العتيق التي أخذت من خالد ذريعة لمخاطبة المدينة من خلال إنفعالاته ونظرته هو لنفسه لا نظرة الآخرين له.

والحال هذا، فإن المدينة السعودية (الرياض، جدة) راهناً، أدت من خلال تطورها وإتساعها إلى خلق نماذجها الإنسانية للرواية. تنظر الرياض إلى المرآة فيخرج « خالد « فهد العتيق ثم يخرج « طراد « يوسف المحيميد. لتعود وتخرج كائنات أخرى وشخصيات وحكايات وقصص كثيرة كان لها مصير لامع حين كتبت. فالشخصيات المهمشة التي كتب عنها الروائيون الثلاثة، لم تعد كذلك، سوى في النظرة السطحية للمدينة. وهي بعد كتابتها رواية، بدأت بالعيش كأي كائن آخر، في حين أن المدينة أخرجت ما يمكن أن يطلق عليه « الفضلات « وهي، وليس هذا حصراً بالمدينة السعودية، تنتج فضلاتها يومياً بما يتسع لكتابة أنهار من الورق.

ثمة نماذج أخرى كتبتها، أو ساهمت بكتابتها المدينة السعودية، لكنها، والمجال هنا ضيق لتعدادها جميعاً، تركت نفسها بعيدة عن ما يمكن للكاتب المحترف أن يشتغله. والأمر الهام، في هذا الجانب، أن المدينة السعودية، صنعت مرايا كثيرة، لا لأن الكتاب كثر، بل لأن تطورها إجتماعياً ونموها إقتصادياً وسياسياً ساهم في هذا.

ولعل من أبرز ما تناولته النماذج الروائية المذكورة هي أنها أضاءت على نماذج مهمشة تعيش المدينة بكل جوارحها رغم أن المدينة لا تمنحها الفرصة المؤاتية للخروج من هذا الهامش إلى المتن. وهذا ما يجعل من الرواية السعودية في علاقتها مع المدينة، رواية متأرجحة بين القلق والإرتباك، ما يعني أن المدينة لم تكشف عن نفسها بعد بما يسمح للروائي بتناولها كمادة للرواية.

والحق أن تناول شخصيات بعينها وانتشالها من قالب المرآة ووضعها على ورق، ما زال يؤكد أن المدينة السعودية لم تكتب كرواية بعد، وإنما كل ما سبق يعد من قبيل المحاولات التي تبني نفسها كما تبني المدينة صورتها في المرآة.

باريس

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة