Culture Magazine Thursday  24/03/2011 G Issue 336
مراجعات
الخميس 19 ,ربيع الثاني 1432   العدد  336
 
استراحة داخل صومعة الفكر
سعد البواردي

اليقين

محمد إسماعيل جوهرجي

211 صفحة من القطع المتوسط

إذا كان عند جهينة الخبر اليقين.. فإنني هنا أقول على ما أحسب عند شاعرنا الجوهري الخبر اليقين.. لقد اختار اليقين عنوانا لديوانه الجميل والأنيق طباعة وإخراجاً وورقاً.. كل هذا يحملني أن أجد المضمون الشعري.. والمحتوى الشعوري الذي يتناسب معه ويتوافق مع شكله..

بداية بيقينه:

ردي إليَّ بصيرتي وصوابي

فلقد مللت من الحياة رغابي

لا تعجبي! إني بديت بلا رؤى

حين الربيع غدا ظلال ضباب

ما عاد يطربني المغناء ولا الهوى

فكلاهما مستنفر لعذابي

يقين ألم يصور نفسه.. ويمسك بتلابيب ريشته وهي تطرح بأسها وبؤسها.. على ماذا؟ هذا ما سأحاول الوصول والحصول عليه:

ضيعت أحلام الشباب فلا منى

تنثر عبير الطهر في أجنابي

حتى سأمت من الحياة وزيفها

وأفقت من لغط بها ولعاب

يا عزيزي لا ذنب للحياة فيما نشكو منها. نحن البشر الذين نشكل لون الحياة، وطعمها «حلوها ومرها.. الأمنيات والأغنيات وحدها لا تكفي..

ليت الليالي أن تعيد لك الحجى

فيضيء نور الله في أهدابي

هذا ما تحتاج إليه النفس.. ألا بذكر الله تطمئن القلوب.. ويختتم مقطوعته اليقينية الطويلة بهذا البيت:

إني أحس الشوق بين جوانحي

للكوثر المورود، للأحباب

وعن الموت كنهاية عمر.. وكأجل محتوم يقول شاعرنا:

يا صائل الخطو إن الموت مفترس

ما يدفع الموت لا جاه ولا حرس

كم قوص الدهر صيالا بقوته

وخيم الحزن في بيت له ونس

مضت تفرح بالدينا وزخرفها

وغرك المال. والأضواء والهوس

إن كنت ترجو من الأيام نائلة

تذكر اليوم أقواما بها نكسوا!

عظة يقينية إيمائية بأن الموت حق. لا يستثني أحد لماله. ولا لجاهه.. لا لفخره.. ولا كبره.. إنه لا يساوم أحدا ولا يستثني أحداً.

هلا ذكرت عذاب القبر متعظاً

فضمة القبر للغادين مرتكس

نتذكر الأجل وما بعد الأجل لحظة مرض.. أو مشهد جنائزي.. وما نلبث أن نعود إلى غينا.. ولهثنا وسط زحمة الحياة المضنية.

ومن مشهد الموت يأخذنا الجوهري إلى مشهد آخر أكبر جلالا وإجلالاً.. إنها قدرة الخالق جل وعلا:

ذات يوم أظلمت شم الهضاب

وبدا ليل مخيف واكتئاب

خيَّم الصمت عل هام الربى

واكفهر الجو وأسودَّ السحاب

ريح تولول، وكلاب تعوي.. ووحشة مظلمة، ونجوم أعفت عيونها، وبدر أسدل الستار على وجهه.. شواهد موحشة.. ألفت نظر شاعرنا اليقيني أن العواء للذئب.. والنباح للكلب.

لحظة فيها تجلت قدرة

تحكم الكون بضبط لا يعاب

مفردة «لا يعاب» غير مناسبة، الأفضل عنها «وحساب».

«لحظة تأمل» إحدى محطاتنا معه:

إن السماء والأرض كل آية

تحكي صنع الله في إتقان

السماء.. والأرض مثنى.. حسنا لو قال كلا.. من البديهي أن نصف صنيع الله بالإتقان.. ليته قال «في الأكوان»

لو أطلق الإنسان فيها عقله

لرأى سرائرها كما البرهان

سَبْع رفعن شوامخا في عزة

من غير تأسيس ولا بنيان

والأرض سواها بساطا للورى

يمشون فوق أديمها بأمان

يا موغلا في التيه كفَّ ألا ترى

آياته في دفقه الشريان؟

يتأمل الكواكب وهي تهدي الركبان.. والشمس بوهجها.. والسحاب. والمطر، والرياح..

تلكم لعمري آية ملموسة

جلت عن النكران، والغفلان..

يأخذنا التيه معه.. لا لضياع.. وإنما لأخذ العظة والعبرة..

يا زمان رأيت فيه العجابا

الخسيس اللئيم يمسي مهابا

يرفع الكبر خده في تباهٍ..

حين يمشي.. مرنحاً.. يتصابى!

هذا هو المدخل.. وما بعد المدخل يوجه نصحه ولومه:

يا أخا التيه والصيال ترفق

أنت أدنى إلى الهوام انتسابا

ظهر النفس باليقين.. وخل

عزة النفس جانبا والسرابا

ملاحظة عابرة على بيته الأخير.. «خلِّ» لا تخلو من خلل.. حسنا لو قال «وأودع» إما عزة النفس فلا ضير منها، بل هي مطلوبة بخلاف ذلة النفس..

أفضل أن يأتي الشطر الأخر بكامله كما يلي: «ذلة النفس جانبا.. والمُعابا»

غالك الزيف والبريق فأمسى

صوتك الغض منكرا مشرابا

الفظ بالظاء على ما أحسب وليس بالضاد..

يا أخا الكبر لا تغالي فقبلك

من توارى عن الحياة. وغابا

مفردة فقبلك مرتبكة أيضاً يحسن أن يكون البيت على النحو التالي: (يا أخا الكبر كم على الكبر مغرور توارى عن الحياة وغابا)

ترك الأهل والثراء وأضحى

عبر لحد مودع. ما أصابا

على هذا النحو يمضي فارسنا في توصيفه وتوظيفه لمفرداته وعظاته دفعا لروح من التواضع بعيدا عن الاستعلاء والخيلاء و الغطرسة وتضخم الذات.

«نفحات إيمانية» عنوان له ما بعده:

أكفف عن اللوم وانشد صافيَ السبب

قد فاض حبي لخير الخلق في النسب

أفدي ثراه بروحي وهي مؤمنة

جلت عن اللغو والإسفاف والكذب

إنه محمد بن عبدالله الرسول النبي الذي بعثه الله رحمة للعالمين.. إنه يخاطبه بيقين لا يرقى إليه الشك..

بلغت يا سيدي المعصوم منزلة

لم يدن منها أولو عزم من النجب

رعتك أمك في الأحشاء منبثقاً

شلال ضوء منير حالك الدرب

حللت خيرا على أرض لها هرمت

فأقبل السعد بالأرواء والسحب

أوحى لك الله أن إقرأ مفسرة

لقد سموت إلى العليا فارتقب

الشطر الأخير أتمنى لو أنه جاء على النحو التالي: (لقد سموت إلى العلياء خير نبي)

في نفحاته الإيمانية الكثير من إعجازته وإنجازاته.. وما تعرض له من أذى وهو ينشر رسالته وصولا إلى المواقع التي كانت علاماته بارزة في نجاح الدعوة إلى الله ونشر الحق والعدل والفضيلة في دنيا الناس.

«خواطر مضيئة» عنوان آخر من أدبيات شاعرنا الروحية:

لا أغالي أن لي قلبا زكا

لا يبالي الموت في الحق، صلابة

فأنا مازلت أحيا في الدنا

وترا حيا، ولحنا.. وربابة..

أسكب البوح على راح الضنا

من فؤاد شفه اللفح وشابه

وسمائي لم تزل في أفقها

تنزف الرعب ملالا وكآبه

السماء يا شاعرنا لا تختلف عن الأفق.. كلاهما فضاءات تأخذنا إلى البعيد البعيد.. هلا أبدلت سمائي برياحي التي تنزف ما يرعب؟!

من يَهُن نفسا على طلب العلا

كانت العلياء تلقيه يبابه

مفردة طلب يخل بتوزان الشطر.. لكي تستقيم استخدم مفردة «نيل» أو كسْب.. إنهما الأنسب..

يمضي شاعرنا اليقيني الجوهرجي في خواطره المضيئة:

اركب الصعب ذلولا طيعا

دونه القعساء عزا ومهابة

وكأنما يذكرنا بمقولة الشابي

ومن يتهيب صعود الجبال

يعش أبد الدهر بين الحفر

يصمد المقدام لا يخشى الونا

إن تكن دنياه ذئبا كان نابه

إن من يعطي لنفس قدرها

ويصنها كان أجدى بالإهابة

ثمن العلياء خطب فادح

دونه خطب المعنّى بالصبابة

أبيات موحية بجمالياتها ومضامينها تستحث الخطوات أن لا تتهيب الدرب، وأن لا تتراجع عن تحقيق أهداف الرحلة..

هذه المرة خطنا الدنيا كيف رأها؟ وكيف عكستها مرآة شعره؟

هي الدنيا تقول لكل حي

سل الأيام عن مكري وبطشي

فإنك لو غفلت اليوم عني

ستلقي في مسارك غبَّ طيشي

فحاول أن تصيح بصوت عقل

وأن لا تطمئن لرغد عيشي

أبيات ثلاثة تلخص لنا مضامين الدنيا غير الآمنة.. الدنيا المتغيرة.. المتقلبة المزاج.. والتي لا تستقر فيها حال على حال..

كل من لاقيت يشكو دهره

ليت شعري هذه الدنيا لمن؟

هكذا وصفها شاعرنا القديم.. نفس نظرة شاعرنا الحديث.. كلاهما يرى الأمل والألم وجهان لعملة واحدة.

بين الدنيا والزمن الانقباري علاقة وثيقة أشبه بالتوأمة بين مكونين:

يا زمانا صار فيه ألف تفسير ومعنى

مذ بدأنا نتعامى والرؤى تحمل حسنا

هل مضينا لا نبالي أينا أكثر غبنا؟!

يسحق الأقوى أخاه في اشتهاء يتمنى!

يصطلي بالنار لفحا لاهب الإحساس مضني

يا زمان الدهر حسبك تلهب القلب العليل

لعل كلمة «يكفي» تفي بالغرض المنشود وتحفظ للشطر توازنه بدلا من «حسبك».. الشاعر وقد عاش زمن الانقبار تذكر القبور وقد شفرت أفواهها كي تحتضن الأبرياء في البوسنة والهرسك وقد اغتالتهم الوحوش من الصربية على مشهد ومسمع من العالم المسكون بوحشيته.

ما الذي تبغيه مني بعد طحن الأبرياء؟

في ربى «الهرسك» أهلي يجرعون الحنظلاء

ويسامون عذابا ودمارا وبلاء

وبأرضيهم هلاك نازف أزكى الدماء

إين صوت الحق فينا؟ أين صوت الشرفاء

يا زمانا عشت فيه بين نخع، وهراء؟!

وقتها كان الصوت يؤذن في مالطة.. وما يزال في أكثر من موقع ولأكثر من واقعة.. والحبل على الجرار

ومن مشهد المآسي إلى آخر لعله أخف وطأة على النفس.. هذا ما يبدو من عنوانه «خفقة نبض» وإنه لكذلك»

عطري الأرض بالعبير المباح

يا وروداً تفوح عبر الصباح

واسكبي اللحن شاديا يتغنى

في فتون وبسمة وانشحاح

إن شر النفوس في الأرض نفس

تتوقى الرواح قبل الرواح!

ما يضير الجبان لو أن تصدى

يصرع الجبن في اناء الطماح؟

آفة المرء أن يظل سجينا

يتوارى عن الفجاج الفساح

فصراع الحياة أمر سجال

ذل فيه الجبان عبر الجماح!

هكذا ينشد لقوة الحق أن تنتصر.. ولحق القوة أن ينكسر.. أن يرى راية النصر خفاقة على سارية الحرية.. أن يرى الأحرار

شيمة الحر أن يكون أبياً

طاهر النفس مغضباً في سماح

أخيراً وقد اجتزنا مع شاعرنا اليقيني الجوهري المتألق كل محطات الرحلة باستثناء محطة واحدة عنوانها «الضياع» كان علينا جميعا أن نرجع ونتراجع.. أو نأخذ بنخوته ونجتاز وأياه مخاطر الضياع وصولا إلى شط الأمان.. وكان الخيار أن نتقبل الاختبار دون تلكؤ:

لو لم تكن في منصب حساس

ما التف حولك نخبة الجلاس

هذي هي الدنيا تدين لمفترٍ

ولمعتل صهواتها مياس

هذا تحصيل حاصل.. أين الضياع؟ وأين مكاننا معه؟!

أين التواصل في مسار حياتنا

نغشاه في حب بكل حماس؟

وروافد الماضي تفيض بحبنا

وتُحاط بالإخفاء والإيناس

إنا فتنا بالحياة.. وزيفها

وعشت رؤانا لجة الإغلاس

بالأمس كنا أسرة في جمعها

في ودها. في قربها الوناس

واليوم ياللعار أمسى خلقنا

مستنكراً للوصل بالإحباس

يريد شاعرنا أن يقول لنا ما نحن السبب فيه.. ضياع ثوابت اجتماعية.. ضياع أواصر أسرية.. ضياع ضوابط سلوكية.. يا عزيزي الجوهرجي.

ألم تقرأ بعد ما قاله عنا شاعرنا القديم:

نعيب زماننا والعيب فينا

وما لزماننا عيب سوانا

وقد تهجوا الزمان بغير جرم

ولو نطق الزمان بنا هجانا

فدنيانا التصنع والترائي

ويأكل بعضنا بعضا عيانا

هكذا شخَّص الحالة.. ووضع الإصبع على الدمل.. أما أنت فسأكتفي ببضعة أبيات من ديوانك اليقين في مرحلة الضياع القائم.

صُدعت علاقاتنا وبات المجتنى

تفريقنا عن بعضنا في الباس

لا شيء يشغلنا سوى تبرزها

في خدمة.. أو قطعة من ماس

لو ساءل الإنسان يوما نفسه

أين الألى؟ كانوا كما النبراس

لرأى مآثرهم تشق نضارة

وتريه إبراء الزمان القاسي..

الماضي لا يعود.. رحل بما حمل.. المهم أن نأخذ من تاريخهم المضيء نبراساً نتحرك به.. ونهتدي على ضوئه كي لا يلفنا الضياع.. وتنهشنا السباع.

الرياض ص. ب 231185 - الرمز 11321 فاكس 2053338

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة