Culture Magazine Thursday  07/06/2012 G Issue 376
فضاءات
الخميس 17 ,رجب 1433   العدد  376
 
المشّائية التويترية
عبدالرحمن الصالح

 

ضمن ما أنجزه "أرسطو" من مهام فكرية وعلمية وتعليمية عبر حياته المديدة، التي لم يكن آخرها تربية وتعليم "الإسكندر المقدوني" أيام طفولته وبواكير فتوته، ولا تصنيف وأرشفة جميع العلوم المتاحة حتَّى ذلك العصر، كان افتتاح مدرسته في أثينا أواخر مسيرته العلمية والفكرية.

أنشأ أرسطو مدرسته الشهيرة في منطقة الملعب الرياضي المسمى (اللوقيون)، وكان بجوار المدرسة ممشى طويل ظليل، هو جزء من اللوقيون، يؤثره أرسطو ويغشاه كثيرًا، وكان يلقي دروسه على طلبته وهو يقطعه جيئةً وذهابًا، واشتهر ذلك عنه حتَّى سميت المدرسة باسم "مدرسة المشّائين" وسمي واتباعه باسم المشائين، وهي طريقة في التدريس اتبعها قبله (بروتاغوراس) وقلّده فيها أرسطو (الموسوعة الفلسفية - الحفني).

وأنت إذا دلفت إلى عالم التويتر وعبَّرت آلاف الصفحات والحسابات الممتلئة بمختلف الآراء والأنباء والمعلومات والمشحونة بالمماحكات السياسية والإيديولوجية، وتجاوزت الكثير من اللغو الاجتماعي والمهاترات الإعلامية والغثاء الثقافي، تقف فجأة على مشارف واحة فكرية نادرة، هي أشبه ما يكون بالرواق الممتد امتداد الفكر الطليق أو هي أقرب إلى ممشى (اللوقيون) الشهير، إنها وسم الحوار شبه الأسبوعي بين د.الغذامي ومحاوريه Thank_gh.

وإذا أخذتك هنيهة من الإطراق التأملي وسرحت بنظرك قليلاً عبر هذا الرواق الافتراضي تراءى لك الدكتور الغذامي يتهادى بنشوة فكرية غامرة تحف به كوكبة من عشاق وعاشقات الثقافة الخالصة والفكر المحض، بعيدًا عن عواصف السياسة وبغائض الأيديولوجيا والانتماءات الضيقة والهموم الصغيرة. تتراءى لك هذه الكوكبة الجميلة في "مشّائية تويترية" جديدة تتكرر مرتين في الأسبوع، وينظمها ويرعاها هواة لا تحركهم ميول فئوية ولا مصالح شخصية ولا تكاد تعرف أكثر من أسمائهم وملامح غائمة لسحنات بعض وجوههم. وأنت إذا سرحت أكثر في أجواء هذا الرواق الافتراضي تكاد تلمح طيوفًا أخر يتميز لك منها طيف أرسطو ورتل من تلامذته يبتسمون بكثير من النشوة وكأنهم يباركون هذه "المشّائية" المستجدة ويعمدونها وريثًا لتراث عريق غابر.

لا يمل الغذامي ولا يبخل بوقته مع مرور الشهور ولا يتناقص بل يزداد رواد هذه "المشّائية" من الشباب والشابات الذين يستثيرونك بأسئلتهم ويبهرونك بمداخلاتهم. وتبتهج أولاً بهذا العدد الكبير والمتزايد الذي يواصل قراءة كتب الغذامي أسبوعًا وراء أسبوع، وهي ليست بالكتب السهلة، رغم رشاقة أسلوبها، ولا موضوعاتها يسيرة التناول والهضم، رغم جاذبيتها، وهم يشاركون في واحدة من أكبر تظاهرات القراءة الجماعية الجادة. ثمَّ تعجب لهذه الحيوية المتدفقة والاستحضار الشامل لمضامين وجزئيات هذه الكتب من قبل د. الغذامي، وكأنه فرغ توًا من كتابتها بالرغم من أن أغلبها مضى على تأليفه العديد من السنوات.

على أن اللافت حقًا هو الاستجابة المباشرة والمثابرة من د.الغذامي بالإجابة على كل سؤال لكل مشارك والتعليق على معظم المداخلات والمشاركة الوجدانية في طقوس البدء والختام لجميع هذه اللقاءات بنفس الروح والحماس والتفاعل مع متابعيه.. بل محاوريه.. بل أصدقائه كما يحب أن يدعوهم دائمًا.

هذه تجربة فريدة ومتميزة، فضلاً عن كونها مفيدة، في واقعنا الثقافي يؤمل إلا يتوانى المثقف والمنشغل بالفكر عن مباركتها والإشادة بها ومتابعتها، مثلما يؤمل بالرعاة الهواة والمشاركين في هذه "المشّائية" مواصلة الاهتمام والمشاركة بذات الروح والترويج لها في أوساط الشباب وعدم التوقف مهما تكن الظروف، بل وعدم الاكتفاء بالكتب وموضوعاتها فهي محدودة العدد وسيتم استنفادها قريبًا. ويمكن أن يتم الانتقال إلى مناقشة موضوعات ثقافية وقضايا فكرية جديدة، وما أكثرها في فضاء النقد الثقافي الذي دشنه د.الغذامي. وإذا كان في ذلك أو سيكون بهجة مستديمة لمحاوري الغذامي وإثراء غزير للقضايا الثقافية والفكرية، فإنه سيكون فيها ولا شكّ العبء الثقيل على د.الغذامي وعلى وقته واهتماماته ومشاغله الأخرى.

ومع ذلك فإني أحرض جميع محاوريه بعدم التفريط بهذا المنجز البديع وهذه المسيرة "المشّائية" المبهرة، وأدعوهم إلى استثمار الطبيعة (الجهنية) المغدقة لدى د.الغذامي الذي ورث العطاء والبذل ونزعة المشاركة الأصيلة من ينبوع يستعصي على الجفاف والتوقف. فالذي زاحمه الكثيرون في حليب طفولته وتشرب معهم غريزة المشاركة الودودة، لن يتوانى عن مقاسمة وقته وجهده مع إعداد أكبر من المتعطشين لحليب إبداعاته الفكرية المتواصلة.

وغني عن القول: إن هذه الأسطر ليست مديحًا عبثيًا ولا خطابًا تبجيليًا لهذه القامة الفكرية العالية، وهي أهل لذلك، بل هي دعوة للهجوم الكاسح والشامل على هذا النبع الإبداعي الفريد من قبل محاوريه ورواد "مشّائيته" الثرية، فالمبدعون الذين تميزوا لا يتكررون في زمن قياسي، والمبادرات الجميلة تبهت سريعًا وتتوارى إذا فتر العزم وتراخى المبادرون وتفرق الرواد.

تحية للدكتور الغذامي في غمار مسيرته الفكرية المديدة وتحية للمشّائين الجدد من متابعيه ومحاوريه قوامًا لحركة ثقافية متواصلة وخميرة نهضة فكرية بازغة.

الرياض weelanez a_asaleeh@yahoo.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة