Culture Magazine Thursday  07/06/2012 G Issue 376
فضاءات
الخميس 17 ,رجب 1433   العدد  376
 
(مدخل إلى المناهج النقدية في التحليل الأدبي) (3)
عمر بن عبد العزيز المحمود

 

ويكشف Daniel Bergez (دانيال بارجاس) في تَمهيده لهذا الكتاب عن أنَّ ضرباً من (الإرهاب) المنهجي والإيديولوجي قد أثَّر في تدريس الأدب وفي الإنتاج الأدبي ذاته منذ عقودٍ من السنين، وهو يشير من خلال هذا الكلام إلى تلك السلطة المطلقة التي منحها النقَّاد لأنفسهم في معالَجة النصوص، والعظمة التي يرون من خلالِها هذه المعالَجات، وكأنَّهم يريدون خطف الأضواء من النصِّ الأدبي، ولفت الأنظار إلى ما يقومون به من مُمارساتٍ نقدية، حتى وصل بِهم الأمر إلى التدخُّل السافر في الخطاب الأدبي ، وتوجيه دلالاته حسب أهوائهم ومزاجياتِهم.

ولذلك يؤكِّد (دانيال بارجاس) على أنَّ بعض النقاد أمثال Julien Graaq (جوليان قراك) قد شرع من خلال كتابه (الأدب في المعدة) في فضح هذا الانحراف القائم على اعتبار أنَّ كلام الناقد أهم من نتاج كاتب الأدب، وقد تساءل من خلال افتتاحية كتابه بقوله: (ماذا تقول لِهؤلاء الذين لا يرتاحون حتى يَجعلوا عملك الأدبي في شكل قُفْلٍ؛ لاعتقادهم أنَّهم يَملكون مفتاحاً؟).

ويشير (دانيال) إلى أنَّ واقع الخطاب النقدي يتمثَّل دائماً في إنهاك النص الذي يكون موضوعاً له، وذلك باسم تناسقٍ مُختلف، أو باسم يقينٍ منهجي، ويذكر أنَّ Celine (سيلين) الكاتب الفرنسي المعاصر يؤكِّد في كتابه (تُرَّهاتٌ من أجل تشويهٍ قاتل) أنه من المخجل والمهين أن نرى أنَّ المثقَّف يسلخ نصَّاً أو عملاً أدبياً بكيفيَّةٍ ماكرة، كما يشير إلى أنَّ Montesquieu (منتسيكو) يُشبِّه النقَّاد بِجنرالات الجيش الأشرار الذين يُلوِّثون مياه البلد عندما يعجزون عن احتلاله. ويطرح (دانيال) بعد ذلك تساؤلاً مفاده: هل يكون النقد قاتلاً للأدب؟ ويُجيب على هذا التساؤل بأنه لازمٌ له بالقدر ذاته، غير أنَّ الإزعاج فيه مأتاه المفارقة المتمثِّلة في كون العمل الأدبي مُحتاجاً إلى خطاب يشرحه، بل إنه يستدعيه باعتباره ينتمي إلى عالم اللغة، ومع ذلك فإنه من الممكن دائماً أن تأتي لَحظةٌ يَجنح فيها النقد إلى الاكتفاء بذاته، وإلى أن يُنحِّي العمل الأدبي، فيجعله مُجرَّد تعلَّة!

ويكشف (دانيال) في هذا التمهيد عن أنَّ هذه الشرعية وهذه المخاطر تتصف بِها جَميع الأنشطة التي تسهم في شرح النصوص من قريبٍ أو من بعيد، ويُشبِّه ذلك ب(البيان الصحفي) و(العرض الجامعي) و(تفسير النصوص) الذي يُمارَس في قاعات الدرس، وتفكير (ذي الشعرية) وحتى تبادل الآراء بين قارئين، ففي جَميع هذه الوضعيات يكون الأدب موضوع خطاب وتثمينٍ وتقديرٍ للقيمة.

وعن المستهدف من هذا الكتاب يوضِّح (دانيال) أنَّ أهل النقد الجامعي هم أبرز الذين يُخاطَبون من خلال مباحثه وفصوله؛ ذلك أنَّ النقد الجامعي هو أكبر مَجالٍ تَمَّ فيه التساؤل عن طرائق حكم كهذا على العمل الأدبي، ويكشف عن أنَّ العلوم الإنسانية توجد بين مَن يرى أنَّ النقد لا يُمكن أن يكون إلا مشبوباً حَماساً، وبين أصحاب التعليقات الحاليين الميالين عموماً إلى الاعتدال، هذه العلوم الإنسانية التي قلبت ظروف الخطاب المستعمل في مُمارسة الأدب، فقد كان الموضوعُ الإنساني هو مدار تَحليل تطورات التاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس التحليلي، وكذلك فعلت بالنصِّ الأدبي من حيث هو مَجال بَحث بقدر ما هو متعةٌ جَمالية. والحقُّ أنَّ هذا التمهيد الذي وضعه (دانيال) لِهذا الكتاب يتضمن عدداً من القضايا المهمة والمفصلية في النقد الأدبي الحديث، فمما أشار إليه في هذا السياق أنَّ النقد يَجنح إلى أن يكون علماً يوظِّف إجراءات تَحليل ذات رموزٍ مُنظَّمة، كما يوظِّف رصيداً دقيقاً من المفاهيم، ويؤكِّد هنا مَخاطر النقد الذي لا يُحرص فيه إلا على السمة العلمانية، بِمعنى ألا يقتضي مُجرَّد إمكان وجود هذا النقد أن يكون النصُّ الأدبي مثيل شيءٍ موجود في ذاته، وأنَّ كلَّ نصٍّ هو دائماً مقروء بواسطة شخص، ومن هنا فإنَّ وجوده متوقِّفٌ على رؤية قارئٍ معين، وعلى ظروف تلقِّي ذلك النص، وهي ظروفٌ دائمة التبدُّل، ولكن مثل هذا الأمر البديهي لا يؤدِّي البتة إلى الانكفاء والانكماش على ما في المقاربة الشخصية من ذاتية، ويؤكِّد في هذا السياق وسائل الفهم الجديدة التي نَحن مدينون بِها للتاريخ ولعلم الاجتماع ولعلم النفس التحليلي وللسانيات، وأنَّ هذه الوسائل لا يُمكن لأحد أن يَحقرها أو يغفل أهَميتها في المعالَجة النقدية.

ويؤكِّد (دانيال) أنَّ هذا السبب هو الذي من أجله صُنِّف هذا الكتاب الذي يُحاول أن يُقدِّم تيارات النقد الكبرى الراهنة ويُحلِّلها تباعاً: تيار التوليدية ثُمَّ النفسانية فالغرضية، وأخيراً التيار الاجتماعي فالنصَّاني، ويرى أنَّ تقديم هذه التوجُّهات المنهجية الخمسة على نَحوٍ منفصلٍ هو الطريقة المثلى للمحافظة على خصوصية كلٍّ منها، وسيلاحظ القارئ خلال ذلك أنَّ هذه المناهج جَميعاً تفترض تصوُّراً معيناً للنصِّ الأدبي، وربَّما تصوُّراً معيناً للإنسان أيضاً، وهذا الهاجس ذاته هو الذي اقتضى أن يُصنَّف هذا الكتاب تصنيفاً جَماعياً، فأُوكل كلُّ فصلٍ منه إلى باحثٍ مُختصٍّ يكون حُرَّاً في منهجه وأسلوبه في نطاق الحدود الضيقة التي يفرضها حجم هذا الكتاب.

Omar1401@gmail.com الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة