Culture Magazine Thursday  11/10/2012 G Issue 383
فضاءات
الخميس 25 ,ذو القعدة 1433   العدد  383
 
التركي..المثقف ما بين قُبلة الحياة ورصاصة الرحمة
سهام القحطاني

 

إذا كان الغذامي قد أعلن «موت المثقف»، فالدكتور إبراهيم التركي قد طالب من خلال حواره في صحيفة الحياة العدد «18075» مع الأستاذ عبد الله وافية إلى إنقاذ المثقف «بقبلة الحياة».

صحيح أن مفهوم المثقف الذي أعلن الغذامي موته يختلف عن مفهوم المثقف الذي طالب التركي بإنقاذه «بقبلة الحياة». لكن المشترك بينهما إشكاليَّة «ثقافة التقدير» التي تقع ما بين «قبلة الحياة ورصاصة الرحمة». فما بين «رصاصة الرحمة» و»قبلة الحياة» لا يمكن أن نغفل دور «ثقافة التقدير» لأنَّها هي من تحدد؛ متى يجب أن نطلق رصاصة الرَّحْمة على المثقف ومتى يجب أن ننقذه بقبلة الحياة؟.

والتركي في حواره يحوّل إشكاليَّة «غياب حقوق ثقافة تقدير المثقف» إلى إشكاليَّة عامة تتعلّق بغياب «ثقافة التقدير» في ذاتها، وذلك الغياب في مجمله يُضيّع حقوق ثقافة التقدير للفاعل المنجِز في أي مجال وليس في المجال الثقافي، وكأن الفاعل المنجزّ مُجرَّد سلعة ذات تاريخ محدود الصلاحيَّة مُجرَّد أن يُعلن غيابه الوظيفي يُلقى به في صحيفة النسيان لأنَّه أصبح منتهي الصلاحيَّة.

والكل يعلم اهتمام الدكتور إبراهيم التركي بهذه القضية؛ قضيَّة «تفعيل ثقافة التقدير» سواء على المستوى الشخصي أو المهني؛ على المستوى الشخصي من خلال تبنيه «لمشروع إحياء المثقف» عبر مقالاته في زاويَّة إمضاء التي عرض فيها مئة وثلاثة أعلام، وزاويَّة سيرة كرسي ثقافي أو كتبه، كما أنه استطاع تفعيل ثقافة التقدير على المستوى المهني من خلال تبني المجلة الثقافيَّة بقيادته لملفات خاصة «برموز الثقافة الغائبين» عن دائرة الضوء، إيمانًا منه بأن قيمة الشكر تكمن في «أن يَرَى الرمز في حياته عرفانًا بمآثره» كما يقول الدكتور التركي، ولأن الميت «يحتاج إلى الدُّعاء».

والتركي بتعميمه هذه الإشكاليَّة يُشير إلى خلل في معنى «ثقافة القيمة» و»منهجيَّة التقدير» وليس في مبناهما فقط. وأظن أن هنا تكمن خطورة هذه الإشكالية؛ لأمرين:

الأمر الأول: لأن ثقافة العطاء مرتبطة بثقافة التقدير، فالواجب لا يفرض علينا العطاء وإنما القيام بدورنا على أكمل وجه، والعطاء فعل اختياري خارج قائمة الواجب، هو فعل استثنائي لأنَّه يحرر المرء من فرديته وأنانيَّة الاستئثار بالفائدة المطوِرة للفكر والفعل الاجتماعيين. وثقافة التقدير تشجع على شيوع سلوك العطاء عند القادر على الإِنْجاز والإبداع والاختلاف، كما أنها تساعد على التحرر من الفرديَّة والأنانيَّة والاستئثار بالفائدة المطِورة للمجتمع، أو الهروب بها إلى مجتمع يتمتع بثقافة التقدير.

فالنفس الإنسانيَّة بطبيعتها تميل إلى حب الإثابة وتقدير الذات المنجزة.

كما أن قاعدة بيانات المعرفيَّة التي تتشكّل من خلالها مواقفنا وأحكامنا وقراراتنا تتأثر بالنماذج الشائعة التي هي جزءٌ من ممثلات القدوة الرسميَّة للمجتمع ونوعيَّة الثقافة الشائعة.

والتعويض المؤقت لا يعني توجيد الثقافة الغائيَّة إنما يعني الاحتيال الشكلاني على الثقافة الغائبة.

وذلك التعويض والاحتيال لا يُعدلان تربيَّة طريقة تفكير الفرد ولا يؤثِّران في تغيير قراراته، ولا أبالغ إن قلت: إنهما يكرِّسان تطرف الفرد في التقوقع على فرديته ورفض مبدأ العطاء الثقافي.

والأمر الثاني: أن الممارسات الرسميَّة للتجاهل واللا مبالاة ونسيان الفاعل المنجِز «المثقف» تشجع على الفكر الأناني والاستغلالي ومنطق «اتحالف مع الشَّيطان من أجل مصلحتي الثقافيَّة» و»أنا ومن ورائي الطوفان». وهذا المنطق يُفرّغ فكر وضمير المثقف من واجب الانتماء الثقافي الوطني وهذا التفريغ يحوّله إلى «حيوان ثقافي» يستغل الثقافة لمنافعه فقط، بل وقد تجعل المثقف عرضة للاستغلال من قبل من يُهدِّد خطر الانتماء الوطني.

وفي الحالتين فمبدأ استغلال المثقف للثقافة؛ سواء «بسلبيته» أو «خيانته لانتمائه» يضرّ بقيمة الإنتاج الثقافي للمثقف ودور ذلك الإنتاج في تطوير العقل الاجتماعي، وقد يتحوَّل ذلك الإنتاج إلى خطر يُهدِّد مرتكزات الانتماء الوطني للمجتمع وهويته.

ويطرح التركي في حواره سببين لغياب ثقافة التقدير للمثقف؛ السبب الأول المجتمع المستفيد من المثقف. وفي هذا السبب يمكنني القول حسبما أعتقد أن المثقف في الدول الناميَّة ثقافيًّا مثل السعوديَّة يأتي في المرتبة الرابعة في صناعة الرأي العام ولذلك يظل ضمن من يمثِّل «ردة الفعل» وليس الفعل ذاته، مما يقلل من أهميته في تطوير العقل الاجتماعي حتَّى يُصبح أحيانًا «وجوده يساوي غيابه».

ولا شكَّ أن المثقف يتحمل مسئوليَّة تهميشه لأسباب عدة، والحديث عن هذه الأسباب يطول لكني سأختصرها في أربع نقاط هي: استخفاف المثقف بالعقل الاجتماعي، نخبويته التي غيَّبت عنه صورة المجتمع الحقيقيَّة والمشاركة في مراحل تطوره، ارتباطه بالمشروع التنويري الذي لا يتناسب مع طبيعة المجتمع، وطموحه الجامح بأن يصبح «إلهًا للمجتمع» لا جزءًا من يومهم وهمومهم وأحلامهم، ومتى ما كانت هذه طريقة المثقف في طرح رسالته الثقافيَّة استحق حينها «رصاصة الرحمة».

ولذلك لا نندهش عندما نكتشف أن أغلبيَّة المجتمع من نساء ورجال وشباب وطلاب يعرفون أسماء رجال الدين ولاعبي كرة القدم المحليين والعالميين والممثلين المغنيين ولا يعرفون أسماء المثقفين ولا أعمالهم ولا فيما يكتبون.

والمعرفة هنا مهمة لأن حرص المرء على معرفة المثقف وتاريخه دليل على مدى تأثير المثقف في المعارف، كما أن المعرفة تدعم العلاقة العاطفيَّة بين المثقف وجمهور المجتمع.

وتنشأ العلاقة العاطفيَّة بين المثقف والجمهور إذا أصبح المثقف «صدى لفكرهم» «صدى لرؤيتهم» «صدى لصوتهم» وتحوله إلى صدى للجمهور هو الذي يمنحه ثقة الجمهور ومن ثمَّ القدرة على تغييرهم.

إن المثقف لا يستطيع أنْ يُغيِّرَ المجتمع إلا إذا أحبه النَّاس ووثقوا به.

إضافة إلى أن المعرفة هي جزء من ثقافة التقدير، فأنا لا أمنح قيمة تقدير لشخص إلا إذا عرفت فكره وإنجازه وأهميَّة ذلك الفكر والإنجاز.

ومسئوليَّة غياب المعرفة مقسمة ما بين المثقف والتَّربية والتَّعليم والإعلام.

صحيح أن القسم الأكبر يقع على عاتق المثقف وعليه أن يثبت أنه يستحقُّ ثقة المجتمع وأنه يستطيع أن يصبح «رمزًا جماهيريًّا» أو «مثقفًا شعبيًّا»، وإن لم يستطع فهو يستحقُّ رصاصة الرحمة.

ومتى ما أصبح المثقف رمزًا جماهيريًّا ومثقفًا شعبيًّا أجبر التَّربية والتَّعليم والإعلام على أن يجعلوه فاعلاً لتطوير المجتمع. أجبرهما كذلك على الاعتراف بفاعليته في صناعة الرأي العام.

والسبب الثاني في غياب الوعي بثقافة التقدير كما يَرَى التركي هو وزارة الثقافة وملحقاتها.

إن الدول الناميَّة غالبًا «القرارات الرسمية» هي التي تشكّل وعي النَّاس في المجتمع، وهذا يجعل المؤسسات الرسميَّة هي المتهمة الأولى في غياب «الوعي في هكذا مسألة» لأنَّها المُتحكِّمة في قنوات صناعة الرأي العام التَّربية والتَّعليم والإعلام والجوائز.

وتلك المؤسسات قد تفشل في نشر ثقافة التقدير لسبب من سببين أولهما، عدم إيمانها بضرورة نشر هذه الثقافة وقد يكون هذا الاتجاه احترازيًا بسبب عدم تضارب القدوات وتجنب الخلاف الفاحش، أو جهل القائمين على تلك المؤسسات الرسميَّة بمنهجيَّة هذه الثقافة وكيفيَّة تطبيقها.

والسبب الثاني «سذاجة تطبيق ثقافة التقدير» من قبل المؤسسات الرسميَّة التي تطلق على المثقف كرصاصة رحمة ليموت بهدوء. وسذاجة التطبيق مثل عدم التطبيق لا يحقِّق تشكيل الوعي الاجتماعي لأهميَّة ثقافة التقدير ودورها في تطوير كوادر المجتمع والتشجيع على العطاء الذي هو قلب الإبداع والإنتاج والابتكار الذي بدوره هو روح حضارة المجتمع.

وغياب وعي منهجيَّة المؤسسة الرسميَّة لثقافة التقدير انعكس على طريقتها في تقدير المثقف وظنها «أن» سذاجة إعلان التقدير وهشاشته وشكلانيته» قد يعوّض غياب «ثقافة التقدير» وإن اختصار التقدير في برواز درع وصورة قد يساوي ثقافة التقدير ويحقِّقها، في حين أن ذلك التَّعامل الساذج لقيمة التقدير هو شاهد عيان لممارسة الوزارة إطلاق رصاصة الرَّحْمة على المثقف بدم بارد.

إن ثقافة التقدير ليست فقط قبلة الحياة لرواد الثقافة وقدامى المثقفين بل هي قبلة الحياة لِكُلِّ من يملك القدرة على العطاء والإبداع والإنجاز، كما أنها ميثاق ثقة بين كل مثقف يملك القدرة على العطاء والمؤسسة الرسميَّة. وخلاف ذلك سيظلُّ كل مثقف معطّاءً في انتظار رصاصة الرَّحْمة في درع أو صورة، أو قبلة الحياة لتخرجه من غيبوبة النسيان ونكران الجميل. أما الآن «فلا عزاء للمثقفين».

sehama71@gmail.com جدة
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 7333 ثم إلى الكود 82244

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة