Culture Magazine Thursday  11/10/2012 G Issue 383
فضاءات
الخميس 25 ,ذو القعدة 1433   العدد  383
 
نظرية التعبير: المبادئ والأصول
د. صالح زياد

 

لا تنجلي المبادئ والأصول الجوهرية لنظرية التعبير، من دون ملاحظة جملة النفي أو عبارته السالبة والداحضة التي تقابل ما تثبته نظرية التعبير للأدب وما تصفه به. وهذه طريقة مألوفة في بيان وجهات النظر وتقرير التصورات تعبِّر عنها عبارة القدامى بطلب «البدء بالتخلية قبل التحلية» أي نفي ما ليس صفةً للشيء وتخلية له مما يمنع تحرير مفهومه المراد قبل وصفه بهذا المفهوم وتقريره له. وقد لا تبدو المسألة بهذا التراتب الذي يستلزم تقديم فعل على فعل، فقد ينعكس التراتب أو تتجاور التخلية والتحلية، والنفي والإثبات، وقد يكتفى بالتصريح بأحدهما، ولكن ضرورة الفهم لدلالة أحدهما تستلزم في غياب الآخر التضمين لما يقابله أو لنقيضه أو ما يختلف عنه. وهذا هو المعنى الذي يوافق دلالة القول السائر «وبضدها تتميز الأشياء» فلن نفهم حق الفهم أي وجهة نظرية -مثلما لن نفهم أي دلالة- ما لم نأخذها في حساب التقابل مع غيرها والنقض له أو الاختلاف عنه.

وحين نقرأ مقدمة وردزورث لديوانه التي تعد متناً أولياً لنظرية التعبير، أو «سيرة ذاتية» لكولرج، وهو متن أساسي آخر لها، فإن الشعر الذي كان موضوع حديثهما يتأسس على نفي التعريف له من وجهة أرسطو ومن وجهة الكلاسيكية الجديدة على حد سواء. وتخصيص هاتين الوجهتين تحديداً يأتي من تقدمهما تاريخياً على نظرية التعبير وانطوائها على مناهضتهما وتخلية الفن من مقولاتهما، وذلك لازم التبرير لوجودها.

وأول ما تنفيه نظرية التعبير هي العلاقة بين الشعر الذي سيغدو لديها نموذجاً للأدب وللفن إجمالاً، وبين الواقع الخارجي. فالشعر ينتمي إلى داخل الشاعر أي إلى انفعاله. إنه فيما يقول وردزورث: «تدفق تلقائي للانفعالات القوية». وقد لحظ أبرامز في كتابه «المرآة والمصباح» أن صياغة هذه العبارة عند وردزورث وتكراره لها مرتين في المقدمة نفسها أحلها في مكان الفكرة الأساسية التي أسس عليها النظرية. واقتضت أن يصبح الفنان في نظرية التعبير هو ذاته العنصر الرئيس المولِّد للمنتج الفني وللمعيارية التي يحكم على منتجه بها، فالدافع الأساسي للشعر هو في داخل الشاعر في الانفعالات والرغبات التي تنشد التعبير. وبذلك لم يعد، كما لدى أرسطو، مقرَّراً من جهة أفعال الإنسان والصفات التي تتم محاكاتها، ولم يعد التأثير المقصود في الجمهور، كما في الكلاسيكية الجديدة.

وإذا كان الانفعال مرجعاً للشعر والفن إجمالاً، وكان الناس جميعاً يتشاركون في الشعور به، فيغضبون، ويفرحون، ويحزنون... إلخ، فإن امتياز الشاعر وعبقريته لدى نظرية التعبير هو مدار تأكيد متكرر لدى روادها جميعاً. وهو امتياز يحيل على ما يتمتع به من حساسية غير عادية، ومن فاعلية ذهنية. فهو -فيما رأى كولردج مثلاً- يتعاطف بدرجة أكثر من المعتاد مع موضوعات الطبيعة وأحداث الحياة الإنسانية، ولديه قدرة غير عادية على النشاط الذهني التلقائي عامة وبالأخص على نشاط الملكتين العقليتين: «الخيال» و»الوهم» اللتين ميز بينهما كولردج. وهو امتياز بالقدرة على «الحدس» Intuition الذي يرادف الخيال لدى بندتو كروتشيه، فيصبح الفن لديه حدساً والحدس ينبثق من أعماق الوجدان، فلا حدس حقاً إلا لأنه يمثل عاطفة، ومعنى ذلك أن الحدس هنا يتلبس معي التعبير، وهو ما ينبه إليه كروتشيه مؤكداً أن التفرقة بين الحدس والتعبير تفرقة خاطئة ليس لها ما يبررها.

هذا يعني الإزاحة والنفي لهيمنة العقل، تلك التي تبدو من جهة التأكيد على الخيال في نظرية التعبير علامة تغاير وافتراق عن الكلاسيكية، تماماً كما هي إزاحة للمقصد النفعي عن الفن ونفي له. وهي إزاحة تتصل بدلالة الحرية التي تنطوي عليها فردية الأديب التي يتطلبها الخيال مثلما يتطلبها الانفعال. فلنقل -إذن- إن نظرية التعبير تقوم على قاعدتين، أو تطير بجناحين: الانفعال والخيال. فالشاعر نتيجة قدرته غير العادية على الانفعال والتخيل، يخلق من ذاته أو يضفي من روحه حياة على الموضوع بحيث يصبح الموضوع حياً مثل الكائن العضوي، وبذلك يوفِّق بين العناصر والموضوعات ويهيمن عليها بوحدة عاطفية. لكن امتياز الملكة التي تمكن الشاعر من ذلك، لا تبدو إلا بتمييز كولردج بين ملكات ثلاث: أولها «الخيال الأولي» ويشترك فيه الناس جميعاً لأنه «القوة الحيوية أو الأولية التي تجعل الإدراك الإنساني ممكناً» أما الثاني فهو «الخيال الثانوي» وهو خيال الشعراء، و»يوجد مع الإرادة الواعية... فيذيب ويلاشي ويحطم لكي يخلق من جديد، وحينما لا تتسنى له هذه العملية فإنه على أي حال يسعى إلى إيجاد الوحدة وإلى تحويل الواقع إلى مثالي». ونقيض هذه الملكة تحديداً الملكة الثالثة وهو «الوهم» الذي تترابط فيه الموضوعات آلياً وفقاً لقانون تداعي المعاني، أي أنه ملكة تمكِّن العقل من الجمع والتكديس.

ويترتب على هذه العضوية التي يصنعها الانفعال في العمل الفني بواسطة الخيال، إزاحة التصور الآلي للإبداع من حيث هو دلالة سطحية ودلالة صنعة تفصل بين الأديب وإنتاجه، وبين اللفظ والمعنى. فالوزن في الشعر مثل ألوان الصور والمجازات تتطلب الانفعال وتنشأ أدبيتها من الحاجة في التعبير عنه إلى فرض النظام عليه. وبذلك يتجلى فارق بين إثارة الانفعال أو وصفه وبين التعبير عنه، فلو كان الغرض هو إثارة الانفعال لكان من المحتَّم -كما يصف كولنجود- معرفة الأديب للمستمعين الذين يخاطبهم، لكي ينتقي المنبه الذي يحدث رد فعل لديهم، ولو كان يصف انفعاله لتساوى مع من يخبر بأنه غاضب أو حزين أو ما أشبه. إن إثارة الانفعال أو وصفه -إذن- ليست من الفن في شيء لأنها في الأول تحيل الفن إلى وسيلة، وفي الثاني تعمم الانفعال ولا تخصصه وتجرده ولا تجسمه. وهذه دلالة في نظرية التعبير على الصفة الواعية والمنضبطة التي نبه إليها فيرون وغيره، وعلى الخصوصية التي تميز الأديب في حسه وملكته التعبيرية كما رأينا عند كولردج. والناتج عن ذلك -فيما تطورت إليه نظرية التعبير لدى جون ديوي وكيرت دوكاس- هو أن الفنان يخرج مشاعره إلى حيز الموضوعية عبر وسيط موضوعي.

وفكرة الوسيط الموضوعي هذه ستؤدي إلى نقلة للفكرة الأولية للنظرية التي قال بها وردز ورث، أعني التدفق التلقائي للانفعال، ولفكرة الاتحاد بين الذات والموضوع عبر ما يسبغه الخيال من وحدة على العناصر، لدى كولردج. والأساس في هذه النقلة هو الفيلسوف الأمريكي جون ديوي في كتابه «الفن خبرة» (1934م) فقد كشف عن فعل التعبير من حيث هو تفاعل بين ما يصدر من الذات والوسيط الموضوعي من جهة أخرى، مذكراً بالأصل الاشتقاقي لكلمة تعبير Expression وهو الدلالة على عملية العصر (عصر العنب وما شابه) وهي عملية تتضمن تفاعلاً بين المادة الخام والموضوع الخارجي وهي المعصرة. وهذا التفاعل يؤدي إلى تحويل وتغيير تصنعه الجهتان. وبتطبيق هذا المثال على فعل التعبير الفني تكون المادة الخام هي الانفعال والوسيط الموضوعي اللغة، ونتيجة التعبير في القصيدة أن يكتسب الانفعال والوسيط الموضوعي أي اللغة صورة وتنظيماً لم تكن لهما قبل التفاعل، والتعديل أو التحول هنا أصابا الانفعال ووسيطه الموضوعي معاً.

ولئن كان التقليد صفة راسخة في الكلاسيكية، سواء بالمعنى الذي يحيل إلى العلاقة بين المحدثين والقدامى، أو بمعنى التشاكل مع الحياة ومحاكاة الطبيعة، فإن الجدة الإبداعية هي القيمة التي تنتج في نظرية التعبير عن العلاقة بين الإبداع ومؤلِّفه من زاوية اليقين بفردية المبدع وحريته. وهي قيمة تبدأ من صفة المبدع لديها التي تخرجه عن العادي وتعلو به على التشابه، وسنجد تكراراً للتأكيد على تحرر نظرة الشاعر من قيود العادة والعرف، وقدرته على الكشف وتحويل الصور وجدة الأشياء عليه ودهشته أمامها التي استدعت -لدى كثيرين- تشبيهه بالطفل، مثلما استدعت ما عبَّر عنه تشبيه علي محمود طه للشاعر بالشعاع وبمن يمتلك عصا ساحر وقلب نبي، في بيته الشهير: «هبط الأرض كالشعاع السنيِّ بعصا ساحر وقلب نبي». ويضاعف قيمة الجِدّة هذه مدلول الانفعال والخيال الراسخين في دلالة الفردي. فالوحدة العضوية دلالة على اتحاد العناصر المكونة للعمل الفني اتحاداً عضوياً بحيث تتغلغل الفكرة أو العاطفة في كل جزء منه. ولذلك لا تغدو العلاقة بين الموضوع الجمالي وبين دلالته الشعورية -فيما تطورت الفكرة إليه عند دوكاس- علاقة علامة (مثل الدموع، أو تمعر الوجه) ولا علاقة سبب (كإعلان نتيجة الامتحان) وإنما علاقة تجسُّد فالقصيدة أو اللوحة تجسِّد بوصفها موضوعاً جمالياً، الانفعال بحيث لا يمكن أن يحصل المرء على التأثير نفسه الذي تحدثه الأخبار عن موضوعهما، ولا ما يحدثه أي عمل فني آخر، أو تجربة شخصية.

وعلى الرغم من أن مقولة الانفعال والتعبير عنه ظلت لب دلالة الفن في الجهد النظري عند تولستوي، فإن الفن لديه لا يتعرف بالصلة بالانفعال والتعبير بل بالعدوى، ذلك المصطلح الذي أصبح علامة فارقة على نظريته، ويعني به انتقال المشاعر والأحاسيس من المؤلِّف إلى غيره من الناس، فيقول: «إذا انتقلت بالعدوى تلك المشاعر التي عانى منها المؤلف، إلى المشاهد والمستمع فهذا هو الفن ذاته». وإذا كانت القيمة الجمالية في نظرية التعبير تنفي أن يكون الفن وسيلة، لأن أي إنسان -فيما يقول كولنجود- لا يعرف الانفعال الذي عبر عنه إلا بعد التعبير عنه، وإذا كان فعل التعبير اكتشافاً للانفعال وممارسة له تضيف إلى شعورنا، فإن تولستوي يقرر أن الفن «وسيلة اختلاط بين الناس ضرورية من أجل الحياة ولصالح تطور الإنسان والإنسانية نحو الأفضل، وسيلة توحد الناس في أحاسيس واحدة» «ولو لم يكن لدى الناس إمكان آخر وهو عدوى الفن لكانوا حتماً أكثر وحشية والأهم أكثر تشتتاً وتشاحناً». أما مالا يستطيع إحداث هذه العدوى، فإنه فن رديء أو ليس فناً.

وقد استلزمت مقولة العدوى مثلما استلزم القول بالتعبير القول بمصطلح الصدق الفني، وهو مصطلح ألح عليه فيرون مثلما ألح عليه تولستوي، فالإخلاص -عند فيرون- «يحل محل الحقيقة في الفن» و»ما على الفنان الصادق الشعور إلا أن يستسلم لانفعاله، وسوف يصبح هذا الانفعال مُعدياً، وينهال عليه الثناء الذي يستحقه». وصدقية الفنان هي الشرط الأساسي لإحداث العدوى ولوسم إنتاجه بسمة الفن الحقيقي، وليس للصدق بهذا الخصوص من معنى عنده سوى «أن يعاني الفنان من حاجة داخلية للتعبير عن الإحساس الذي ينقله إلى الآخرين». ولذلك يبادل تولستوي في الإشارة إلى مالا يتحقق فيه الصدق من الفن صفات من قبيل الفن «تزييف الفن» «الفن المزوَّر» الفن الردئ» «أشباه الفن» ...الخ. ويحدد أربعة أساليب تجتمع في المناقضة للصدق والمضادة له، وأولها: الاقتباس من النتاجات القديمة بإعادة صياغتها، والثاني: التقليد ويقصد به نقل تفاصيل الشيء الذي يتم تصويره أو التعبير عنه، مثل نقل الأحاديث في المسرحيات كما هي في الحياة خرقاء وبفواصل وليس بصورة تجعلها ذات مغزى، ومثل الرسم بطريقة تهدم الفرق بينه وبين التصوير الفوتوغرافي. والثالث: إثارة الدهشة وهي التأثير على الأحاسيس الخارجية بتصوير الأشياء المريعة، وتفاصيل العذابات والموت، واستخدام التباينات، وإثارة الجنس... إلخ. والرابع: ويعني لديه الاهتمام العقلي مثل تأليف الأعمال بحيث يجب تخمينها كما تخمن الأحاجي.

وللحديث بقية إن شاء الله

الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة