Culture Magazine Thursday  11/10/2012 G Issue 383
فضاءات
الخميس 25 ,ذو القعدة 1433   العدد  383
 
(انشقاق الذات.. وديمومة العبث)(2)
د. عمر بن عبدالعزيز المحمود

 

ومراد النفوس أصغر من أن

تتعادى فيه وأن تتفانى

غير أن الفتى يلاقي المنايا

كالحات ولا يلاقي الهوانا

ولو أن الحياة تبقى لحي

لعددنا أضلنا الشجعانا

وإذا لم يكن من الموت بد

فمن العجز أن تموت جبانا

كل ما لم يكن من الصعب في الأن

فُس سهل فيها إذا هو كانا

هذا هو المشهد الثاني من نص أبي الطيب المتنبي، الذي يفيض حِكماً متميزة، ويتألق تَجارب عميقة؛ فقد رأينا في المشهد الأول كيف كان أبو الطيب ينظر إلى هذا الزمان، وأدركنا رؤيته لطباع الخلق وطبائع الناس، وعرفنا رأيه في هذا التعادي المؤدي إلى التفاني، وكيف أنَّ هذا الرأي يُستثنى منه حالة واحدة، وهي تلك التي يلاقي فيها الفتى الهوان؛ فالأفضل حينها أن يواجه المنيَّة على أن يُقابل الدنيَّة.

ويستكمل معنا شاعرنا العبقري في هذا المشهد بقية حكمه الاستثنائية، ويُحاول أن يوصل إلى المتلقي مشاهد من تَجربته العميقة في هذه الحياة، وهنا يفصح عن حكمة أخرى من حكمه الرائعة، وذلك عن طريق أسلوب الافتراض والاحتمال، فيقول: إنَّ هذه الحياة لو كانت باقية غير فانية، ومستقرة غير ذاهبة، لكان الشجاع البطل الذي يشارك في المعارك ويَخوض الحروب ويتعرَّض للقتال أضلَّ الناس وأضيعهم، إذ كيف يفعل ذلك ويُعرِّض نفسه للفناء وهو يستطيع أن يتجنب ذلك ليعيش حياةً رغيدةً في دنيا باقية ليس للموت طعم فيها؟ ولكنَّ الحقيقة خلاف كل ذلك، فهذه الحياة لا يُمكن أن تبقى، وعمَّا قليل ستفنى، فلزم من ذلك أنَّ الشجاع حين يذهب بنفسه إلى القتل ليس بضال البتة، بل هو من أذكى الناس وأعقلهم وأكثرهم هداية؛ لأنه علم هذه الحقيقة، ففضَّل الموت في ساحة العزَّة والكرامة بدلاً من الموت في فراشه، ما دام أنَّ الحياة ذاهبةٌ في الحالات جَميعها. ولأنَّ أبا الطيب مؤمنٌ إيماناً كاملاً بِهذه الحقيقة، ومُتأكِّدٌ منها تَماماً، فهو لا يكتفي بِما سبق، بل يؤكِّد ذلك ببيتٍ آخر أضحى من أشهر أبيات الأدب العربي في الحكمة، وما زالت الألسن والأنفس تستشهد به حتى يومنا هذا، وهو قوله:

وَإِذَا لم يَكُن مِن الموتِ بُدٌّ

فَمِن العَجزِ أَن تَموتَ جَبَانَا

وهو بيتٌ يفيض حكمةً، وتتقاطر كلماته شجاعةً وإقداماً، فإذا أيقن الإنسان أنَّ هذه الدنيا فانيةٌ غير باقية، وعرف أنَّ هذه الحياة زائلةٌ غير دائمة، وعلم أنَّ الموت أمرٌ لا بُدَّ منه، لا ينجو منه شجاعٌ أو جبان، فإنَّ الموت حالةَ الجبن ذُلٌّ وخضوع، ومُلاقاة المنيَّة حالةَ الخوف هوانٌ وخنوع، إنَّ الموتَ جُبناً عجزٌ بَيِّن، والفناءَ خوفاً ضعفٌ واضحٌ في الهمة وعجزٌ مكشوفٌ في الطموح؛ ولذلك تَحسَّر خالد بن الوليد رضي الله عنه لَمَّا حضرته الوفاة وهو على الفراش إذ قال حينها: في جسدي مائة طعنةٍ وضربة، وها أنا أموت حتف أنفي، فلا أقرَّ الله أعين الجبناء!

ويَختتم أبو الطيب هذا النص ببيت أخير يَختم به هذه القطعة الرائعة، يفصح فيه عن حكمةٍ أخيرةٍ من حكمه البديعة، يؤكِّد من خلالِها أنَّ الأمر العسير إنَّما يصعب على النفس قبل وقوعه، ويتأزَّم عليها قبل حدوثه، فإذا وقع سهُل وهان عليها، بيد أنَّ هذه السهولة بعد الوقوع لا تُخرجه عن حقيقة صعوبته، ولكنَّ الخوف منه قبله يزيد في هوله، وبعده يُنقِص من هوله، فلذلك عُدَّ سهلاً، وفي هذا المعنى يقول البحتري:

لعمرُكُ ما المكروهُ إلا ارتقابُهُ

وأبرح مِمَّا حَلَّ ما يُتوقَّعُ

إذن فهذا هو شاعرنا العظيم، وهذا هو نصُّه الحكيم، وتلك هي رؤيته الدقيقة، وتيك هي تَجربته العميقة، وقد آن لنا بعد هذه الرحلة الشائقة أن نقف بإيجاز على أبرز سِماته وأهم خصائصه التي جعلت منه نصاً رضي له التاريخُ أن يُخلِّده في صفحاته، والأدبُ أن يُسطِّره في فضاءاته:

1- أول ما يُلاحظ في هذا النص الإيقاعُ الرائعُ الذي اختاره أبو الطيب لِهذه الأبيات، والحرفُ الذي آثر أن يكون روياً لَها، فالبحر الخفيف ذو إيقاع متميز يتصف بالسرعة المتوسطة، والنون المفتوحة المتبوعة بألف والمسبوقة ألف كذلك روي ذو نغم بديع وموسيقي، وكل ذلك يتناسق مع موضوع النص، ويتسق مع فكرة الأبيات، والجو الذي يُحيط بِها.

2- الرؤية الثاقبة والمعاني الدقيقة والتجربة العميقة التي تفتخر بها الأحرف وتطرب لَها الأبيات، وهذه الأمور ليست بغريبة على شاعر بِحجم أبي الطيب الذي طالَما عوَّدنا على هذا التألق والإبداع، وخصوصاً حين يُنشئ نصاً من نفسه ولنفسه، دون أن يكون من ورائه غرضٌ ماديٌّ طمعاً في مالٍ أو منصب، فإنه حينها يبلغ قمة التألق ومنتهى الشاعرية، ولا أدلَّ من أنَّ بعض أبيات هذا النص ما زال الناس على اختلاف مستوياتِهم يَحفظونَها، ويُردِّدونَها، ويستشهدون بِها في كثيرٍ من مواقفهم الحياتية.

3- الصور البديعة والاستعارات الرائعة والكنايات المتألقة التي استعان بِها المتنبي لإيصال فكرته وإبلاغ رؤيته، فقد شخَّص الزمان وجعله يصحب الناس ويصيبهم بالغصَّة دائماً حين يفارقونه وإن أفرح بعضهم أحياناً، وجسَّد لياليه فجعلها تُحسن الصنيع قليلاً لكنها تُكدِّر الإحسان كثيراً، ثُمَّ جعل الزمان يُنبِتُ قناةً كنايةً عن شروعه في فعل الشر والإساءة دون قصد، وجعل المرء يُركِّب سِناناً في هذه القناة كنايةً عن افتعال العداوة والإساءة التي يتكلَّفها بنو آدم توصُّلاً إلى هلاك النفوس.

4- اللغة الفنية والأسلوب المحلق الذي استخدمه شاعرنا الاستثنائي في صياغة حكمه وصناعة أفكاره، وهي في الوقت نفسه لغةٌ بسيطةٌ سهلةٌ خاليةٌ من أيِّ تعقيدٍ أو غموض، وهذه هي عادة المتنبي حين يُنشِدُ في الحكمة تَحديداً؛ لأنه لا يرجو من ورائها مصلحةً أو منفعة؛ لذا تَخرج منه المعاني دون تكلُّف، وتصدر عنه الألفاظ دون تعسُّف.

هذا هو أبو الطيب المتنبي، الشاعر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، وهذا هو نصُّه المتألق الذي كانت الحكمة تنبع من أحرفه، والتجربة تفيض من كلماته، وما هذه الأسطر القليلة والعبارات اليسيرة إلا تَحليقٌ سريعٌ في فضاءات مشاهده، ومرورٌ عابرٌ على أبرز جَمالياته وأهم سِماته.

Omar1401@gmail.com الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة