Culture Magazine Thursday  13/12/2012 G Issue 389
فضاءات
الخميس 29 ,محرم 1434   العدد  389
 
تسليط الأضواء على ترجمة الشعراء
د. بدر بن عبد الله العكاش *

 

تتردد في الأوساط الأدبية والترجمية مقولة وهي أن أفضل من يترجم الشعر هو الشاعر، وذلك لقربه من هذا اللون الأدبي ومعرفته ببواطنه وأسراره وتملُّكه للأدوات الشعرية.

وقد تجذَّر هذا الرأي في أوساط الأدباء والمترجمين، بل والقراء كذلك حتى أصبح من المسلّمات! ولكن يجدر بنا هنا أن نطرح تساؤلاً مهماً: هل حقاً أن أفضل من ينقل الشعر هو الشاعر؟ بعبارة أخرى: هل من يترجم الشعر لا بد أن يكون شاعراً في الأساس؟

أقول، مستعيناً بالله، إن انتشار هذا الرأي مرده إلى التركيز على الجانب الفني للترجمة وتجاهل الجانب المعياري لها. إن للترجمة قوانين خاصة تختلف باختلاف طبيعة النص المترجم وقوانين عامة لا بد من اتباعها بغض النظر عن نوع النص المترجم.. وهنا تكمن المشكلة: فالمترجم - الشاعر عند نقله للشعر يسلم نفسه لخياله الشعري ويطلق العنان لإحساسه الفني، فتجده منقاداً عوضاً عن أن يقود هو هذا الخيال وهذه الأحاسيس! وهذا بالطبع يؤدي إلى إنتاج نص شعري مترجم يختلف كثيراً عن النص الأصلي عند مقارنتهما.. فتجد أحيانا أن المترجم - الشاعر (وغير الشاعر كذلك) يستبدل بعض الصور الشعرية والتراكيب البلاغية الموجودة في النص الأصلي بصور وتشبيهات وتراكيب اللغة التي ينقل إليها، أي أنه يسبغ على النص صبغة محلية مما يعطي المتلقي تصوراً مغلوطاً عن الثقافة التي ينتمي لها النص، وهذا الأمر يتعارض تماماً مع أمرين مهمين في الترجمة: أولهما - أنه يتعارض مع إحدى أهم وظائف الترجمة ألا وهي التعريف بثقافات وفنون وآداب الشعوب ألأخرى.. الأمر الثاني - ينسف أحد أهم الشروط الواجب توفرها في النص المترجم وهو: ضرورة ألا يحتوي نص الترجمة على مكونات ثقافية أو قومية هي من خصائص الشعب المتلقي للترجمة.. فضلاً عن ذلك، عندما يقوم المترجم بهذا الفعل فإنه بهذا يخلع عباءة المترجم ويرتدي عباءة المؤلف، إذ إنه أوجد مضموناً جديداً! وهذا مما لا ينبغي للمترجم الإقدام عليه.

ومما يكثر لدى الشعراء الذين يقومون بالترجمة هو حرصهم على الترجمة الشعرية، أي نقل الشعر بالشعر، وهذا يضطرهم إلى إجراء تغييرات كبيرة على بنية النص الأصلي ومحتواه لكي يكون النص المترجم موزوناً ومقفى.. إذ إنهم لو قاموا بترجمة النص الأصلي كما هو، فمن الصعب بل من المستحيل أن يكون النص المنتج شعرياً، أي يمتلك خصائص النص الشعري من وزن وقافية وإيقاع داخلي وجرس موسيقي.

ولكي يتضح المقصود، سأستشهد بأحد أعلام الشعر في العصر الحديث ألا وهو الشاعر المصري أحمد رامي الذي قام بترجمة بعض رباعيات الخيام.. وبما أننا ذكرنا الخيام، فلا بد من أن نجلي أمراً هاماً وهو أن عدداً كبيراً من رباعيات الخيام التي تتردد على ألسنة الناس والمنثورة في الكتب هي في الواقع ليست للخيام، بل هي منسوبة له، وهذا ما أكده الدكتور بسام ربابعة المتخصص في الأدب الفارسي، وذلك في محاضرته التي ألقاها في الملتقى العلمي لقسم اللغات الحديثة والترجمة بجامعة الملك سعود.

نعود إلى رامي، ففي إحدى ترجماته نجد الشطر التالي:

غدا بظهر الغيب واليوم لي

بينما الترجمة المفرداتية الدقيقة للنص الأصلي، كما ذكر الدكتور سيد فؤاد المتخصص في اللغة الفارسية، هي كالتالي:

اليوم في يدك (متناول يدك) أما غدا فلا

وبمقارنة الترجمتين نجد أن ترجمة رامي تختلف عن الترجمة الدقيقة في موضعين. الموضع الأول: استخدم رامي تعبير: ظهر الغيب، وهو تعبير بلاغي جميل ولكنه غير موجود في النص الأصلي الذي تعبر فيه فكرة عدم امتلاك المستقبل بأسلوب لغوي مباشر باستخدام حرف النفي: لا

وهذا الأمر يخالف قاعدة مهمة من قواعد الترجمة وهي نقل المعنى البرغماتي للمفردة والذي يقصد به السمات الأسلوبية والبلاغية لهذه الكلمة أو تلك سواء كانت هذه السمات سلبية أو إيجابية.. وتنص هذه القاعدة على أنه يمنع نقل كلمة مباشرة لا تتميز بأي سمة بلاغية أو أسلوبية باستخدام كلمة ذات خصائص بلاغية أو أسلوبية.

إن عدم الالتزام بنقل المعنى البرغماتي والاكتفاء بالمعنى الدلالي يؤدي إلى إحداث خلل في التأثير التواصلي.

الموضع الثاني: الخلل هنا، بالمناسبة، يأتي معاكساً للخلل في الموضع الأول. يحتوي النص الأصلي على صورة بلاغية لطيفة وهي: اليوم في متناول يدك، ولكن رامي ترجمها ترجمة مباشرة: اليوم لي. إن استبدال كلمة ذات خصائص بلاغية بكلمة مباشرة لها نفس الدلالة هو من الأمور المسموحة في الترجمة إذا كانت الكلمة الموجودة في النص الأصلي ليس لها مقابل في اللغة المنقول إليها يحمل نفس الخصائص الأسلوبية أو البلاغية.. ولكن في حالتنا التي نقوم بتحليلها الآن نجد أن المنظومة البلاغية للغة العربية تسمح باستخدام نفس الصورة البلاغية، ولهذا فقد كان من الواجب استخدام المجاز في النص العربي ليتطابق مع المجاز الموجود في النص الأصلي مما يجعل متلقي النص الأصلي ومتلقي النص المترجم

على نفس الدرجة من إمكانية التعرض للتأثير البرغماتي الذي أسميناه في مقالة سابقة «تكافؤ الاستيعاب».. ولكن أحمد رامي ضحّى بهذه الصورة المجازية لاعتبارات القافية (فضلاً عن قيامه بتغيير صيغة الخطاب) لكي تتطابق مع قافية الشطر الآخر من البيت:

وكم يخيب الظن في المقبل

وهنا تكمن مشكلة أخرى عندما يقوم الشاعر بالترجمة وهي أنه يلوي عنق النص سعياً وراء الجرس الموسيقي والقافية مضحياً بالمحتوى، أي بالمفردات المكونة للنص الأصلي.. وهذا يؤدي إلى إيجاد نص «هجين» الكلمات فيه إما كلمات مقابلة لكلمات النص الأصلي أو كلمات «مستبدلة» لضرورة الوزن والقافية مسكوبة في قوالب الشعر المحلي! (ومما يُحسب لأحمد رامي أنه حافظَ في ترجماته للرباعيات على قواعد كتابة الرباعي وهي أن تتطابق قافية الشطر الأول والثاني والرابع، أما قافية الثالث فتكون اختيارية، قد تتطابق وقد تختلف).

وهنا ينشأ سؤال: هل هذه هي الترجمة؟! بالطبع لا، لأن هذا الأمر هو عبارة عن إعادة تأليف بل ومساهمة في التأليف مع الكاتب الأصلي! إذا أراد المترجم - الشاعر أن يبدع فليبدع ولكن ليس «بتحريف» إبداعات الآخرين بل بشعره الخاص به!

عندما نقرأ نصاً شعرياً مترجماً فإننا أمام أحد نصين لا ثالث لهما: نص بعيد عن المحتوى الأصلي ولكنه شعري، أي تتوفر فيه شروط النص الشعري الرئيسية من وزن وقافية وهو ما ينتجه المترجم - الشاعر في الغالب، ونص «غير شعري» ولكنه دقيق من الناحية اللغوية.

أمام هذين الخيارين المغرقين في التنافر أجدني أميل إلى الطريقة الثانية. أعتقد، والعلم عند لله، أنه لكي تقوم الترجمة بوظيفتها الرئيسية ولكي يكون محتوى النص الأصلي والمترجم قريبين لا بد أن يترجم الشعر نثراً، لأن نقل الشعر باستخدام الشعر يضحي بالمحتوى، وهو الأهم، ويحافظ على الشكل، أي الصبغة الشعرية.. أما نقل الشعر بالنثر فهو يحافظ على المحتوى ولا يلتزم بالشكل.. وهذا الأمر لا يتناقض مع سمة رئيسية من سمات النص الأدبي وهي اعتماده على الشكل والصياغة، فإذا كان الالتزام بالشكل سيؤدي إلى فقدان الأهم وهو المحتوى، فالتضحية هنا بالشكل أولى للمحافظة على المعنى.. إذن، لا يجتمع في النص الشعري معنى وبنية، أما في النصوص الأخرى فهو ممكن بل ومطلوب.. وخلاصة القول: كلما نقل الشعر نثراً كان أقرب إلى روح النص الأصلي ومحتواه، وإذا ترجم شعراً ارتدى حلة لا تشبه حلة المصدر!

وختاماً أقول: إذا أراد الشاعر أن يترجم الشعر، فليلتزم بقواعد الترجمة، وهذا مما أشك فيه كثيراً لطبيعة الشاعر المتمردة التواقة إلى التحليق! وليعذرني الشعراء ولكنها الترجمة ونواميسها!

*أستاذ اللغة الروسية وعلم الترجمة المساعد - كلية اللغات والترجمة - جامعة الملك سعود / Albadr15ru@yahoo.com - الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة