Culture Magazine Thursday  13/12/2012 G Issue 389
فضاءات
الخميس 29 ,محرم 1434   العدد  389
 
ما فيش فايدة يا صفية!
قاسم حول

 

شخصية سياسية من شخصيات العراق الوطنية. اسمه «باقر إبراهيم» من عائلة متوسطة اجتماعياً دخل معترك الحياة السياسية وكنا نسمع عنه الكثير كشخصية غير مرئية في الشارع وغير متواجدة في المقاهي ولا نراه في الأماسي الثقافية ولو جاء ليستمع أو ليشاهد فهو يرانا ولا نراه حيث صورته غير متداولة في الصحف والمجلات ولا يظهر على شاشات التلفزة. كان يحلم ويتمنى لوطنه الخير وناضل بصدق وفروسية عالية تحمل عذابات السجون. وكان في كل حياته واقعيا. يعرف الجميع أن له قدرة تنظيمية مذهلة وخاصة في مسارات العمل السري داخل العراق. وفي وقت تاجر فيه الكثيرون بالعملية السياسية ونهبوا أموال البلاد والعباد بل ونهبوا أموال أحزابهم، كان هو نظيف القلب واليد واللسان.

نشرت له دار الطليعة في بيروت أخيراً مذكراته السياسية بعنوان «مذكرات باقر إبراهيم». يقع الكتاب في 495 صفحة من القطع الكبير. من خلال الكتاب نتعرف على الشخصيات السياسية والوطنية التي لعبت دوراً في الحياة العراقية ومن خلال مذكراته يمكن للقارئ أن يتعرف على الحارات والبيوت وطبيعتها والمدن والحارات وتاريخها. ومن خلال المذكرات ربما يستنتج القارئ شيئا خفيا لو كان دقيقا في قراءة المذكرات وقراءة الواقع وما آل إليه العراق عبر التقلبات والمتغيرات السياسية، وهو أن العراق يعيش اليوم أسوأ الحالات في تأريخه القديم والحديث في وقت يتنحى فيه باقر إبراهيم وكل باقر إبراهيم جانبا بعد أن فقدوا الثقة بما جرى وما يجري اليوم على أرض بلاد ما بين النهرين!

يلمس القارئ في مذكرات «باقر إبراهيم» الصدق وهي أهم ميزة لمستها في قراءة مذكرات حيث الموضوعية ماثلة للعيان، وفوجئت وأنا أحد متابعيه سياسيا في العراق وخارج العراق، فوجئت بأسلوب مدهش بسيط وأنيق وبصياغة فيها الكثير من الدقة ولم أكن أعرف أنه يملك هذا القلم الأنيق الذي يعبر عنه «الأدب السياسي» والتفاصيل الصغيرة عن المعلمين والمدرسين والعائلات العراقية والأساتذة والمفكرين والأحدث التي تدخلك في عالم روائي وكأن الكاتب يسطر رواية سياسية حتى تتمناها أن لا تكون سياسية.

الذين يهمهم العراق أو الذين يعرفون الكاتب ويعرفون تاريخه ويودون أن يعرفوا التفاصيل عن الحياة السياسية ربما يهمهم أكثر قراءة المذكرات، لكن كتاب مذكراته بشكل عام يشكل شهادة حقيقية نظيفة واعية لعصر صعب ومخيف!

بعد أن أكملت قراءة المذكرات، ووضعت الكتاب جانبا صرت أتأمل الواقع، واقع الأحزاب التي أدت بالعراق وقادته نحو الخراب الكامل، كل الأحزاب دونما استثناء، اليسارية منها والقومية واليمينية منها والدينية. استنتجت بأن فكرة الأحزاب هي فكرة خاطئة وتصبح غير مجدية بشكل خاص عندما تكون وتعمل تحت الأرض، حيث تنعكس فكرة السرية على سرية السلوك وباطنيته وهي لأنها ليست تحت الشمس ولأنها قائمة على فكرة الحلقات والسلاسل التنظيمية فأنها تعتمد على التقارير والرموز والشفرات فيصبح الإنسان المنتمي لهذه الأحزاب شخصا باطنيا ويحلم أحلاما لا علاقة لها بالوضوح ولا بالشمس بل هي أحلام السراديب أو بالأحرى كوابيس السراديب.

فجأة وعندما يتهدم البناء الاجتماعي ويصبح الناس تحت ضوء الشمس في فوضى مثل هذه التي تحصل في الوطن العراقي اليوم، تبرز فئة ظالة غريبة وتقود المجتمع الجديد وينزوي الناس الشرفاء لأنهم لا يملكون القدرة الحربائية في التعايش مع الواقع. ولكن لأن الأمور تقاس بنتائجها فإن نتائج الواقع العراقي تثبت بأن الممارسة السياسية كانت خاطئة تماما. والثمن كان باهضاً وباهضا جداً حتى الخوف من أن الحل سيكون صعبا وأخشى أن يكون مستحيلا حيث يترك الوطن تعبث به الأمراض وتفتك به نزوات الإنسان الشريرة على حساب البناء والطفولة والحلم.

يجلس اليوم هذا الرجل «باقر إبراهيم» الذي أحب وطنه بصدق وبحسن نية ولكن كما يقال الطريق إلى جهنم مفروش أحيانا بالنوايا الحسنة! يجلس اليوم وهو الذي كان يحلم بوطن سعيد وبشعب حر، يجلس منزويا في ثلج السويد يكتب مذكراته للحقيقة وللتاريخ في وقت ضاعت فيه الجغرافيا!

بعد أو وضعت الكتاب جانبا وأنا أقرأ السطور الأخيرة تذكرت الشخصية الوطنية المصرية سعد زغلول ودوره في مجابهة الاستعمار ونضاله مع رفاق دربه وحبه لمصر وحلمه النظيف. وفيما كان على فراش المشهد الأخير للإنسان كانت زوجته «صفية» تواسيه أنه سوف يغادر هذه الدنيا واسمه لامع في سماء مصر، وكانت تقول له إن نضالك سيثمر وسوف تزدهر مصر وتتألق في الحلم الذي هو حلمك، وأن حلمك سوف يتحقق وسيذكرك الناس بالحب والمجد وجميل العرفان.

كان سعد زغلول يعرف ماذا كان يدور في مصر وكيف كانت تعيش مصر وهو يودعها الوداع الأخير. فقال لها «ما فيش فايده يا صفيه.. غطيني!»

sununu@ziggo.nl - هولندا
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 7591 ثم إلى الكود 82244

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة