Culture Magazine Thursday  24/05/2012 G Issue 374
فضاءات
الخميس 3 ,رجب 1433   العدد  374
 
رؤية
عقليات تأسرها النقليات
فالح العجمي

 

هناك أنواع مختلفة من العقليات - كما هو معلوم - في الدراسات الإثنوجرافية والأنثروبولوجية؛ وتتعدد أصنافها تبعاً لعوامل مختلفة، بعضها بنيوي وبعضها الآخر ثقافي واجتماعي - سياسي. وإن كانت بعض الشعارات التي ترفع في وجه كثير من التيارات غير واقعية، إلا أن عدداً من السمات العامة يمكن أن توصف به بعض أنواعها. حيث توجد صفات راسخة فيما يسمى العقلية الغربية، وغيرها فيما يسمى العقلية الشرقية، ومجموعة أخرى فيما يسمى العقلية الآسيوية.

وما دامت العقليات المحصورة في عنوان هذه المقالة تنحصر فيما يسمى العقلية الشرقية، فإن التركيز سيكون على هذا النوع دون سواه. ومما أصبح معلوماً، أن هذه العقلية في الشرق قد قتلت فكرة النقد، كما غشت على العقول والأفهام بأغشيتها الثقيلة. وكان أقسى ما صنعته تلك العقلية أنها قطعت وشائج العلاقة الحية والمرنة بين الناس وواقع حياتهم. فأصبحوا ينظرون دائماً إلى منقذ في كل مرحلة من مراحل الحياة، وفي كل أزمة تمر بهم. والحلول تكون في الغالب ليست من داخلهم، بل من مصدر خارجي يكون هو الملهم والمقبول والنموذج.

لكن هل مصادر تكوّن هذه العقلية ثقافية - دينية، أم تاريخية - عرقية؟ فهناك من يصف السمات الثقافية المنتشرة في الشرق الأدنى، بأنها سامية، وآخرون يصفونها بالإسلامية - العربية. بلا شك أن هناك تداخلاً بين هذه المصادر، خاصة أن العرب ساميون، وأن الدين الإسلامي مشترك مع أديان الساميين الأخرى.

وتذهب بعض الآراء إلى أن العقلية السامية القديمة عقلية أساسها المحسوس المشاهد، لا المعنوي المتخيل. فهي ضحلة التخيل، قليلة العمق في المعقولات المحضة، لا تكاد تلمس ما وراء الطبيعة إلا برفق وسذاجة وفي نطاق محدود. ولا أدل على ذلك من أن معظم الكلمات السامية الدالة على الحقائق الكلية والأمور المعنوية والظواهر النفسية ترجع أصولها إلى أمور مادية تتصل بعالم الحس. فجميع الكلمات التي يعبر بها عن الغضب مثلاً تدل في الأصل على التنفس السريع القوي الذي يصحب الغضب عادة، وأحياناً بكلمة تدل على الرعشة أو ارتفاع الحرارة أو الغليان. والخوف يعبر عنه بكلمة تدل في الأصل على ارتخاء الكليتين. والتكبر بكلمة تدل في الأصل على الشموخ بالرأس أو استطالة القامة واعتدالها. واليأس يعبر عنه بكلمة تدل في الأصل على تقطع نياط القلب. والصبر يعبر عنه بكلمة تدل في الأصل على طول التنفس. والرغبة يعبر عنها بكلمة تدل في الأصل على الظمأ. والعفو يعبر عنه بكلمة تدل في الأصل على المحو ...إلخ.

ومن الواضح أن عقلية هذا شأنها لا تنشأ إلا في مواطن صحراوية قليلة المظاهر الطبيعية، غير متنوعة الأجواء، لأن المناطق المتنوعة الأجواء الغنية بمظاهر الطبيعة تنمي قوة الخيال، وتؤدي إلى تنوع التفكير. ففي هذا دليل على أن الجماعة السامية الأولى، التي ورثت هذه الأمم عقليتها وخيالها ولغتها قد نشأت في الأصل في مناطق صحراوية، وتيرية المناخ، فقيرة في مظاهر الطبيعة. وهذه الأوصاف متوافرة في الحجاز ونجد وما إليهما.

فما الذي يجعل هذا التفكير ذا الطبيعة الحسية يتجه عفوياً نحو المنهج النقلي فيما يجده أمامه من نصوص؟ هذه العقلية التي يأسرها النقل تشعر بالأمان، وهي تقلد الأقدمين، وتسير على خطاهم، تفادياً لأخطاء قد يقعون فيها وهم يفكرون في التجديد، أو يشحذون عقولهم للتصدي للقضايا الجديدة، التي تواجههم في الحياة. لذلك كان مبدؤهم الرئيس: «من تمنطق فقد تزندق»، وظهرت لهذا المبدأ سكة في وسط شبه الجزيرة العربية في العصر الحديث كان شعارها: «خل بينك وبين النار مطوع»!

الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة