Culture Magazine Thursday  24/05/2012 G Issue 374
قراءات
الخميس 3 ,رجب 1433   العدد  374
 
مشاعرهم وهم يركبون الطائرة لأول مرة 2-3
محمد بن عبدالرزاق القشعمي

 

(والآن لقد زاد ارتفاع الطائرة عن 8000 قدم وبذلك انمحت معالم الأرض عن النظر تماماً، وبدأت معالمها من تحتنا كالبخار أو كالضباب أو كالهباء.. واقتربت بنا الطائرة من منطقة السحاب.. وتأملت منظر السحاب ونحن قريبون منه فبدا لي كالخيل المفلتة من حبل مجريها!).

(لأول مرة، وفي الساعة 3:20 من مسيرنا أو من طيراننا على الأصح، أتيح لي أن أرى حيواناً يسير على الأرض ، لعله بقرة أو لعله حمار. لا أدري وعلى كل فإنه اهل مستأنس يرعى الكلأ بهدوء واطئنان، وهذا قطيع من الغنم السود تسير في هذا المسيل الجاف ترعى من عشبه وشجيراته، فهي كخيط أسود عريض ممتد متحرك، أما الراعي فلم نشاهده ولعله كان يتفيأ بعض الظلال عن هذا الهجير اللافح، فقد بدأت الطائره تنخفض رويداً رويداً عن مستواها السابق، فلعل الرحلة السعيدة الأولى من نوعها بالنسبة لي وللزملاء، لعلها موشكة أن تتم قريباً، ها هي الشمس وقد بزغت علينا في نوافذ الطائرة من الجانب الجنوبي.. اذاً لقد بدأت تستدير، لتهبط في استدارتها على المطار.. لقد طالعنا صحفاً غضة من مصر في طائرتنا ونمنا، وطعمنا وشربنا وتحدثنا، وتبادلنا الضحكات والنكات البريئة، وكان كل شيء عادياً وجميلاً ومؤنساً وأنيقاً، حتى الجو الرهيب كان لرهبته في أنظارنا جمال ورونق عجيب وسرعان ما أنسنا به وأنس بنا، فكأننا أصدقاء قدماء متآلفون).

(لقد بدأت الطائرة الآن في الهبوط الصادق تدريجياً أحسسنا بذلك إحساساً مركّزاً، إذاً لقد وصلنا (الرياض).. وإنها الآن لتدور دوراناً منظماً وتهبط هبوطاً منظماً هي الأرض تقترب منا أو نقترب منها على الأصح رويداً رويداً وها هي معالمها وسكانها وما عليها من دور وأشجار وجبال كل ذلك بدأ ينماز لنواظرنا انميازاً واضحاً يزداد وضوحاً بين كل ثانية وأخرى وها هو دوي الآلات يخف قليلاً قليلاً.. وفي الساعة 3:45 هبطت الطائرة ولامست قوادم عجلاتها الأرض وها هي تزوف بذيلها كما تزوف الحمامة حينما تقع على الأرض من طيران شاهق، وها هي تعدو بها عجلها عدو الظليم المطار العظيم، لقد انقلبت الطيارة سيارة في هذه اللحظة الموقوتة، وها هي تقف بعد أن استكملت دورتها الفنية من السير الحثيث، تقف في انتظام واتزان، فلا ارتجاج ولا اهتزاز ولا اضطراب ولا إرهاق، حقاً إن الطيارة الحديثة نعمة عظيمة من نِعم الباري جل وعلا علينا.. كل شيء هادئ.. وها نحن لقد عدنا من (سكان الأرض) بعد أن مكثنا ثلاث ساعات وكسْرٍ من (سكان الجو) وها نحن ننزل من سلم الطائرة إلى أرض المطار بسلام وارتياح بعد رحلة ممتعة وسفر سعيد - إن شاء الله -).

2- ونجد الأستاذ عبد الكريم الجهيمان يصف رحلته الأولى بالطائرة من جدة إلى دمشق فبيروت فباريس قائلاً:

(وفي صباح يوم الخميس الموافق 18 شعبان سنة 71 ركبت الطائرة من جدة إلى دمشق، وكان الجو صافياً ومعظم الأراضي التي نمر بها سهول وهضاب صغيرة، فكان سير الطائرة هادئاً وكانت تتمايل بين حين وآخر، ولكنه تمايل رزين لا إزعاج فيه ولا تكدير.

وعندما اجتزنا نصف الطريق تقريباً - تغيرت المناظر وصرنا نمر بجبال شاهقة وعندئذ تغير سير الطائرة وصارت تعلو ثم تعلو ثم تهبط ما علته دفعة واحدة وصرت أشعر بأن روحي تعلو إلى التراقي بقدر ما تهبط الطائرة إلى الأرض حتى إنني أشعر في بعض الأحيان أن روحي تكاد تفارق جسمي.

ولكن هذه الحالة لم تدم طويلاً فسرعان ما اجتزنا هذه الجبال وباجتيازها عادت الطائرة إلى سيرها الهادئ الجميل. ولكني على الرغم من هدوئه كنت أشعر بشيء من الضيق والملل، كما أنني أشعر بطول الساعات والدقائق فكان الزمن في الطائرة يتضاعف فتصير الساعة ساعتين والدقيقة دقيقتين، وقد يكون هذا الأمر راجعاً لأن الإنسان يشعر بأنه محتوم عليه أن يبقى مدة معينة معلَّقاً في الهواء لا اختيار له في الصعود ولا في الهبوط..

وقد يكون مرجعه أن الإنسان يشعر بشيء من المخاوف ويمر بباله كثير من الهواجس السوداء. وبعد قيامنا من جدة بثلاث ساعات ونصف الساعة دخلنا الحدود السورية فصرنا نمر بمروج خضراء وقرى متناثرة ذات اليمين وذات الشمال وبعد ساعة من دخولنا الحدود السورية وصلنا إلى مطار دمشق فنزلنا فيه وبقينا به نصف ساعة، ثم واصلنا سيرنا - أو طيراننا - فحلّقنا فوق دمشق ورأيناها من الجو في شكل مثلث تستند من ناحية الشمال الغربي على جبل فاسيون وأمامها من ناحية الجنوب الشرقي مروج خضراء هي غوطة دمشق.

ولاحت لنا على بُعد جبال شاهقة هي جبال لبنان، وقد لاحظت أن في أعاليها خطوطاً بيضاء، ولكني لا أدري ما هي، وقد علمت فيما بعد أنها بقايا الثلوج التي لم تذب بعد الشتاء.

علوْنا على جبل لبنان وكانت الطائرة تعلو تارة وتهبط أخرى، وكنا نرى القرى والبيوت في سفوح الجبال وطرق السيارات تتعرج في تلك السفوح وتلتوي على جنباتها ، وكنا نرى الجبال مكسوة بالأشجار والمزروعات. ولاحت لنا بيروت وهي ترتكز من ناحية الشرق على جبال ومزارع ومن ناحية الغرب يحف بها البحر الأبيض المتوسط وقد مكثنا في الجو ما بين مطار دمشق ومطار بيروت ما يقرب من أربعين دقيقة).

(أزف الرحيل إلى باريس - عن طريق القاهرة - وكنت أحمل همّاً ثقيلاً لأنني لا أحسن من اللغة الفرنسية شيئاً كما أن بضاعتي في اللغة الإنجليزية بضاعة مزجاة، وفوق هذا وذاك فإنني أعرف أن الطائرة ستقذف بي في باريس، وأنا لا أعرف عنوان المفوضية السعودية فيها، كما أنني لا أعرف عنوان المكان الذي يقيم به صاحبي. وكنت حائراً مهموماً وهكذا خُُلق الإنسان عجولاً فهو يهتم بالأمور ويتطلب حلول المشاكل كل قبل وقوعها، ويريد النتائج قبل المقدمات ويتطلع إلى علم الغيب مع أنه يعلم أن علم الغيب محجوب عنه بستار سميك لا تخترقه الأبصار ولا تحيط به الأفكار).

(حجزنا قبل السفر بأربعة أيام مركباً في طائرة من طائرات أير فرانس ذات الأربعة محركات وكان ميعاد قيام الطائرة في الساعة العاشرة صباحاً حسب التوقيت الأفرنجي وذلك من مطار بيروت الدولي فحضرنا إلى المطار في الساعة التاسعة وعملنا جميع إجراءات السفر، وقد وجدنا من الموظفين المختصين كل عناية وتسهيل، وفي تمام الساعة العاشرة كان الركاب قد تكاملوا في الطائرة وأغلقت أبوابها وتحركت مراوحها واحدة بعد أخرى، ثم مشت تتهاوى وتجر معها جسمها الهائل الكبير..

فلما بلغت نهاية المطار وجهت وجهها تجاه الريح واشتغلت مراوحها بجد ونشاط تحفُّزاً لمغادرة الغبراء إلى جو السماء وظهرت الإشارة الحمراء بمنع التدخين وشد الأحزمة وصارت مضيفة الطائرة تدور على الركاب منبهة من لم يشد حزامه بضرورة شده، ثم هزت الطائرة جسمها الثقيل وركضت ركضاً سريعاً ثم ما زال هذا الركض يتزايد حتى اقتلعت نفسها من الأرض وحلّقت بنا في جو السماء.

عندئذٍ فككنا الأحزمة وصرت أتطلع من نافذة الطائرة فلا أرى إلا ماءً وسماءً وأتطلع إلى الركاب فأجدهم يتكلمون بلغات لا أفهمها وصارت مضيفة الطائرة تمر على الركاب وتسألهم واحداً واحداً - عن طلباتهم ورغباتهم - فيجيبونها ويطلبون منها ما يريدون، فتجيبهم إلى طلبهم وجاء دوري في الكلام فكلمتني فلم أفهم كلامها، ثم حاولت مرة ثانية أن أفهم منها شيئاً فلم تفلح فتحيرت هي وخجلت أنا وانكمشت وصغرت عند نفسي وتضاءلت حتى صرت لا أكاد أحس بوجودي. ثم قالت لي: هل تتكلم الإنجليزية؟ فأجبتها قليلاً.

الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة