Culture Magazine Thursday  24/05/2012 G Issue 374
قراءات
الخميس 3 ,رجب 1433   العدد  374
 
درس في جماليات الموت - 6
الموت بوصفه ظاهرة رقمية
محمد عبدالله الهويمل

 

ربما اختلف الموت أو ملك الموت في دوره إزاء الإنسان بأنه الملك الوحيد المكلف بتقليل عدد الأجساد على الأرض, وإنقاص رقم البشر, فهو كمي لا نوعي وهو مادي بحت يتعامل مع مادة وهي الجسد والروح وعزلهما.

الموت مادة تمنح المشهد نفسه بعدا طبيعيا وكأنه عنصر من عناصر الطبيعة بوصفه مادة مخلوقة تمت قولبته في جسم وصورة مؤطرين هما ملك الموت. ومهما كانت صورة هذا الملك إلا أنه متحرك كالإنسان أو الطائر, وهذا يدرجه ضمن المتحركات الحيوية وللملائكة تجليات صورية شتى, كأن يكونو أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع قابلة للزيادة بحسب الآية.

ويفرز هذا البعد المادي الطبيعي في ملك الموت أنه مكتمل الحواس التواصلية سمعا ونطقا وبصرا, يسمع الأمر بقبض الروح ويبصر العبد المقبوض وينطق بصوت مسموع, إذ جرت حوارات بينه وبين أنبياء, إذ الأنبياء يخيرون بين الحياة والموت وكلهم يختار الموت, بل إن موسى عليه السلام وجه ضربة لملك الموت بحسبانه إنسانا وفقأ عينه, وهذا ما كرس للعلاقة التطبيعية بين الإنسان وملك الموت, ومنحه عضوية اعتيادية في مجتمع البشر, غير أن الرعب منه جاء بسبب انقطاعنا عن مباشرة حضوره في هذه الوقائع التراثية الصحيحة التي لم يعد جزءا من وعينا, وانعكاسا طبيعيا على ذاكرتنا الشعورية التي تؤسس لعلاقاتنا بمحيطنا المرئي والغيبي, إذ الغيبي وكائناته الغرائبية تمثل لنا علاقة متوترة تجاه الجن والشياطين, ويأتي الموت رغم أنه ملك في هذا السياق فقط, لأنه كائن غيبي درجة أن الغيب برمته يمثل حالة رعب, وتدخله في تفاصيلنا مقلق على الرغم من أن الجن يتواصلون مع بني البشر, وكثير منهم صالحون كما يذكر القرآن ورغم أن ملك الموت يأخذ الصفة الملائكية المريحة من حيث تكوينه المتخيل بأجنحة لا نتصورها إلا من نعومة الريش والهالة النورانية التي تحيط به, وشروطه الطبيعية في التنقلي التي تطّرد في الإنسان والحيوان والطائر وما طبعنا عليه تجاه الملائكة من أنهم حملة الرحمة والعدل.

النور هو جسم أثيري شفيف أبيض في أصله قبل تدخل الألوان في تكييفه إلى غير الأبيض والنور لا يؤديان للبشر حسب الواقع والوعي الشعوري إلا دورا إيجابيا, لذا اخترعوه لأنهم احتاجوه فكان خادما في حالة الحاجة, مكتسبا الصفة الجمالية المدركة باللذة يؤكد القرآن في كشف دلالة النور المعنوي, وأنه على النقيض من الظلام المعنوي فجاء النور يحمل ليس معنى الإشراقه الرومانسية, بل الإنقاذ بكل حتمية هذه الكلمة ما اطرد في إدراكنا أن الملائكة تؤدي دور النور الذي خلقت منه في إسداء العون, لأنها وظيفة النور ذاته, على خلاف النار التي تحمل وظائف ودلالات متناقضة.

تمضي (الملائكة) في الوصف بالجمال المطلق, وأنهم مخلوقات توصف بالجمال الحسي عند وصف الوجه الجميل, أو المعنوي عند وصف حالة من الأخلاقية العليا, فيقال «كان ملكا» أي نموذجا في أخلاقياته, فالملاك لا يند عن رمزيته أي دلالة سلبية بحسب التصور, لذلك وكّل ببعض الأقدار ملائكة كملك الجبال الذي فاوض الرسول أن يطبق عليهم الأخشبين, فكان حضور الملك في المشهد والحوار على أنه مكلف يؤدي معنى إيجابيا للقدر الكارثي الذي سينفذه وهو تدمير وقتل.

الملاك أو القيمة العليا جمالا وعدلا وخلقا ساعة يؤدي دوره العدلي النوراني في تغيير الطبيعة لا ينجز كارثة, إنما يمحض الكارثة معنى نورانيا, لأن الملك النوراني حامل رسالة العدل طرف فيها. ويمتد هذا إلى الموت الذي هو من ضمن الكوارث كما يعزى إلى التصور الشعبي ذي صلة مع الدور الرقمي الذي تمثله الكارثة ذاتها المتعاطية مع الحضور الكمي. والقدر ذاته لا ينفد إرادة الله في الطبيعة والإنسان إلا من خلال الحالة الكمية. ويندرج هذا السياق مقولة العالم جاليليو: «الطبيعة مكتوبة بلغة رقمية».

الموت والكارثة والقدر كلها تتدخل وظيفيا في العملية الحسابية للطبيعة إضافة وحذفا, فالنمو والولادة إضافة قدرية والموت حذف والزلزال والبركان والفيضان كلها تتدخل في قدر الإضافة وكارثة الحذف. والقدر توليدي تعويضي, حيث النمو تدخل في رقم جامد إلى متحرك إلى أكثر. والموت يلعب الدور ذاته فهو يحذف من الحياة ليزيد في عالم الفناء والتراب ويكون عندها كائنا رقميا بامتياز. والبشر لا يتجاوبون مع الموت كظاهرة رقمية. بل بوصفه آخر مختلفا. وكونه طرفا مغايرا يصرف النظرعنه كرقم أو حالة رقمية, لأن الإنسان ذاته لا يستشعر الحالة الرقمية في ذاته بل في نفعياته العارضة المدارة حسابيا ذات الصلة بأحواله وحاجاته المادية التي أكسبت الروحانية الرقمية ضمورا درجة الصفر لعدم الانسجام ما بين الرقمي المادي في سياقات الروحانيات, فكان كشف جماليات الرقمي في هذه الزوايا الشفافة أمرا عصيا وغير ذي بال, وغير مطروح حتى في العارض الخاطف للمدرك أو الحاجة الإنسانية.

إن العمق في تناول السر الرقمي لظاهرة الموت يعزز من التعامل معه كحالة طبيعية مجردة من كل استثناء عفوي, كأي نقص أو زيادة أخرى تدير مصالح البشر في علاقاتهم وخصوصا مع الطبيعة كنقص الصحة أو المال أو زيادة العمر أو كماليات الحياة. ولأن الرقم يدير مجمل العلاقات فإن السر الرقمي للموت إذا دخل بتلقائيته الرقمية إلى هذه العلاقات كممارسة فعلية فإن تلقائيته تجاه الإنسان ستكون أكثف, وعندها تتحقق بداية الجماليات المتصلة بالدعة والطمأنينة التي قد لا يستشعرها في السياقات الكمية إلا الزهاد والمخلصون الذين تعاملوا مع الزهد والدنيا تعاملا كميا, لا سيما إذا عرفّنا الزهد بأنه (التقليل) من متع الحياة. وهنا يبدو التعبير عن الرقم بدرجة (القلة) التي تتحكم بالرقم صعودا وهبوطا, وتحول الحياة بتفاصيلها إلى أرقام (ليس على طريقة غاليليو) يضعف من حالة المعنى الحياتي. وهذا سر جديد في الظاهرة الرقمية للموت ما قد يكثف من أدلجة الموت أو أسلمته بإدراجه ضمن رقميات الدين ذاته الذي يرتب روحانياته العبادية على الرقم كأركان الإسلام (الخمسة) وأركان الإيمان (الستة) وأعداد الركعات والضرورة الرقمية للصوم والزكاة والحج وغيرها, وتدخل وظيفة الموت الرقمية ضمن النوع التنظيمي للدين المناط به ترتيب الحياة وإدارتها, ويأخذ الموت ساعتها دورا إداريا جديدا, أي مهنة خدمية تتمثل بتكريس أولوية وأفضلية الحياة لبشر دون بشر, ودور أخلاقي حقوقي يمنح فرصة جديدة لأفراد جدد في الحياة لكسر احتكار غير أخلاقي لآخرين طامعين بالاستبداد بالبقاء, وهذا دور عدلي لأن الأعضاء الجدد في الحياة جاؤوا دون حسبان منهم وأتوا بهم من ورطوهم في هذا الحيز الضيق والجميل, فحضرت الضرورة الحقوقية المتمثلة بالموت لاقتسام الحيز والجمال, وتلقاها الناس برحابة لتعودهم على هذه القوة الجبارة التي تزيد وتنقص في العدد بوعي منها ولا وعي منهم, وعدم وعيهم ليس جهلا غبيا, إنما تجاهلا الدعة والطمأنينة كعدم اكتراثهم بتفاصيل ماهية الشمس, رغم حاجتهم الماسة لشروقها وما يترتب عليه من تنظيم... ودفئها وحرارتها وضوئها. ولا يباشر أسئلة الكنه والماهية إلا من اطرحوا الدعة جانبا وخاضوا في القلق العلمي اللذيذ, وهو الآخر تماس مع المتغير الكوني الذي يدخل الموت فاعلا وجزءا منه.

الرياض Hm32@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة