Culture Magazine Thursday  29/11/2012 G Issue 387
فضاءات
الخميس 15 ,محرم 1434   العدد  387
 
الفرار إلى كهف منعزل
لمياء باعشن

 

لا!

سيخرج من صدري صرحٌ

وسيعلو ويعلو وأنا أصعد

وعلى قمته سأتربع...

وحدي لا شئ يزعجني،

لا جرح، لا شيء أعمق

قد يُعْجزُ وصفي وحروفي

في الأعلى.. وحدي أتربع

والعالم في الأسفل يعجز

أن يتكوّن.. أن يتطلـّع...

هذه الكلمات لا يرددها ناسك متعبد قرر الانقطاع عن البشر ليفرّغ نفسه للتجليات والكواشف الربانية، إنما هي جزءٌ من قصيدة للشاعر الألماني رينير ماريا ريلكه (Rainer Maria Rilke (1875-1926 الذي تمثّل الوحدة في حياته الشخصية ورأى فيها ملاذاً لتفتّق قريحته الإبداعية. كان انبهار ريلكه لتلك الطاقة الخلاقة المكثفة بداخله عظيماً، فرأى أنه كلما ازدادت وحدته، اشتد توهج قدراته الإبداعية وكثر عطاؤه. يقول ريلكه لأصدقائه ومحبيه: «أتمنى من كل من يحبني أن يحب عزلتي، وإلا اضطررت إلى إخفاء نفسي عن أعين الجميع كما يختبئ الحيوان المتوحش من أعدائه»

قام في داخل الشاعر صراع بين أن يحيا حياته أو يحيا عمله، فاختار أن ينزوي منفرداً متحرراً من القيود الاجتماعية الضاغطة، ورحل إلى مكان هادئ في الريف ليتأمل الطبيعة التي لن تتخلى عنه ولن تخدعه، بل تنقله بإخلاص إلى ما لا نهاية وجوده. وفي كوخ قديم يبعد بعض أميال عن أقرب قرية، عاش ريلكه يأكل الفواكه والخضار ويجلب الماء من بئر في الحديقة ولا يرى إنسياً حتى أطلق عليه الناس اسم (ناسك موزوت «hermit» of Muzot )، إلى أن حانت سكينته الأبدية.

يتحرق الشعراء للتواصل العميق مع أصل الحياة المجهول، فيبحثون عنه في الصمت الداخلي، ويتقوقعون في خلواتهم وينصتون لأصوات الخيال والأحلام الغامضة، ولكنه ليس تحرقاً لمحو الذات وإفنائها في التوحد مع الطبيعة كما يفعل المريد الصوفي. الشاعر ينتظر بروق الإيحاء المفاجئ والنور الذي يعينه على إنتاج عمل ما، على تشكيل رؤية ناصعة وفكر عبقري.

الرهاب الزاهدون يشغلون العقل في مجموعة من ملاحظات تخليصية وتطهيرية عن طريق انضباط تهذيبي لأنفسهم، لكنهم ينصهرون مع المبادئ الكونية بشكل مبهم غامض تعجز اللغة عن تمثله، بينما يلج الشاعر المتأمل عالم المطلق من خلال التبصر في محراب الحقيقة الكونية الفاعلة التي تتجلى في تناغم غير قابل للتجزئة، واستيعابه لهذا التكامل الظواهري يعطيه دفعة قوية للتسامي فوق حدود الحس الجسدي، فيعاين الحكمة السرية في هيكل عقله وينظمها في أساليب بارعة وألفاظ رائعة منتقاة بحرص لتكون خير وسائط تعمل على توصيل فيض العقل الناصع إلى مجاميع المتلقين.

الشاعر إذاً يجد في وحدته ملاذاً للإبداع وانغلاقاً يسمح له بالإصغاء التواصلي البدهي وبالحفر في الداخل دون أن يتوارى داخل مطلب روحاني يذوّب فردانيته، فهو حريص على كيانه المستقل حرصاً جعله يسعى للخروج عن المنظومة الاجتماعية الموحدة لأفرادها.

في دائرة الوحدة كتب بابلو نيرود شاعر تشيلى الأول وأهم شعراء أمريكا اللاتينية أجمل قصائده التي نال عليها جائزة نوبل في 1971، فقد قضى سنوات طويلة في آسيا منقطعاً تماماً عن العلاقات الاجتماعية وحتى عن التحدث بلغته الأم، فحطت العزلة ركابها على روحه وأصبح مزاجه راسياً متعقلاً ومتفكراً. كما شرنق الكاتب الفرنسي مارسيل بروست نفسه في غرفة واحدة عزلها عن الصوت الخارجي بطبقات من الفلين ألصقها على الجدران والأرض ولم يغادر سريره إلا نادراً على مدى خمسة عشر عاماً حتى توفي بعد أن أنجز روايته الكلاسيكية البحث عن الزمن الضائع (Remembrance of Things Past).

أما نيتشه فقد صرح بأنه هو العزلة ذاتها في شكل إنسان، وقد انقطع عن المجتمع في حياته الخاصة ليتمكن من النظر إلى داخله بشكل مكثف حتى تكشفت أمامه أسرار ذاته ثم أصبح سجينها، وكان يقول مازحاً: أنا ناسك سيلز ماريا، وهي القرية السويسرية التي قضى بها السنوات العشر الأخيرة من حياته.

وكان نيتشه يعتقد أنه يتوقف عن الحياة في صحبة الآخرين وأن المجتمع يعمل على نفي ذاته من ذاته، لذلك فقد وجد أن حاجته للعزلة ماسة وحيوية، فهي سلاحه الذي يسترجع به روحه المسلوبة ويتلقى من خلاله إلهامه الفكري المستقل، ويحمي به الأسوار التي رفعها لتحجزه عن المؤثِّرات الخارجية كي يحافظ على نقاء وسلامة ما سماه «بالحمل الروحي».

في (هكذا تحدث زرادشت) يدفع نيتشه بطله المنقطع عن العالم لسنوات إلى الهبوط من كهفه الجبلي لتوصيل ما حصل عليه من حكمة نورانية إلى غيره من المنخرطين في طواحين الحياة العادية. رسالة زرادشت هي رسالة نيتشه: الحكيم المفكر مهمته تنويرية لا انقطاعية تعبدية.

العزلة الفكرية الكاملة أخفت نيتشه خلف قناع روحاني لكنها هي وحدها القادرة على توليد الروح الحرة التي تتطلبها شخصية السوبرمان، أو الفوق إنساني. ما يميز هذا الرجل المتطور فكراً وحكمة أنه متمكن من إدراك مداخل نفسه ومخارجها بوضوح شديد، وهذه ميزة لا ينالها إلا من اعتزل وكثف التركيز على أعماقه الخاصة. العزلة في فلسفة نيتشه فضيلة تضمن لممارسها الحرية والاستقلال، هي كهف داخلي يلجأ إليه الفرد هارباً من بلادة القطعان، هي متاهة القلب التي تقود الفرد إلى مخالفة المسيرة البشرية، حتى لا يتحول إلى ببغاء تكراري محبوس في قفص العبودية الاجتماعية حيث ينفذ ما تمليه قوانينه وبروتوكولاته المتوارثة دون دراية ولا تمحيص.

هؤلاء وغيرهم من الكتاب أرادوا استغلال العزلة واستثمروا الصمت المحيط بهم من أجل إنتاج أدبي عميق، لذلك فهي جنتهم على الأرض، وفيها تتوفر كل عوامل إغناء التجربة الشعرية وإثراء المنابع التخيلية التي يسعى إليها الشعراء والفلاسفة المفكرون، لذا يتغنى الشاعر ألكسندر بوب في قصيدة عن العزلة( Ode on Solitude - Alexander Pope) بهذا الانقطاع عن العالم ويعلن تفضيله للاختفاء عن أعين الناس:

هكذا دعني أعيش

مجهول، مكتوم

مسروق من هذا العالم

دون شاهد يدل

على قبري!!

lamiabaeshen@gmail.com جدة
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 7712 ثم إلى الكود 82244

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة