Culture Magazine Thursday  29/11/2012 G Issue 387
فضاءات
الخميس 15 ,محرم 1434   العدد  387
 
الأداء شعراً عند سمو الأمير خالد الفيصل
قاسم حول

 

جميل ما أصدرته صحيفة «الجزيرة» في عددها الخاص ومن خلال المجلة الثقافيَّة عن سمو الأمير الشاعر خالد الفيصل، شكلت الكتابات صورة وجدان عشاق شعر وشخص سموه، لكن ثمة جانب مهم لم يكتب فيه وهو ما يتعلّق بالأداء الشعري لسموه. وأنا متابع جيد لقراءاته الشعرية. وأعرف سموه من خلال اللقاءات المتلفزة والأماسي الشعرية.

بداية اختلف مع الكثيرين في تقسيم الشعر إلى شعر عمودي كلاسيكي - كلاسي، وشعر حديث أو حداثي أو قصيدة النثر. هذه التقسيمات عندي كمتلقٍ غير دقيقة. فاللغة هي الأداة وليست هي الشعر حتَّى نقسمه وفقها. فالشعر يكتب ببحوره، بالقافية وموسيقيتها مثل ما يكتب نثرًا أو شعرًا حديثًا أو ما يطلق عليه البعْض حداثي أو ما بعد الحداثة. والشعر هو حالة أداة تعبير تأتي عندما تعجز كل وسائل التعبير الأخرى عن أداء مهمتها مهما بلغت عطاءات مفردات لغة التعبير وحتى في السينما التي يُعدُّ الشعر أحد مكوناتها الستة الإيقاعية. فسُمِّيت السينما بالفن السابع والشعر أحد مقوِّماتها الستة.

اللهجة واللهجات هي بالأساس مشتقة من اللغة وثمَّة مفردات في اللهجات العربيَّة تعجز اللغة أحيانًا عن الوصول لعمق معانيها مع عظمة اللغة العربيَّة وبحارها، كلمات ومفردات شعبية أو محكية خلقتها معاناة إنسانيَّة وأحداث على مرِّ التاريخ. وهذه المفردات موجودة في كلِّ اللهجات العربيَّة. فلا يصح القول شاعر عامي أو شاعر شعبي أو شاعر فصيح أو كلاسيكي أو نمطي. الشاعر هو الشاعر واللغة ليست سوى أداة سواء كانت هذه اللغة فصحى أو محكية أو حتَّى مغرقة في شعبيتها. فالشاعر هو الشاعر والفصحى أداته التعبيرية. والشاعر هو الشاعر وأداة تعبيره هي الكلمة المحكية أو المفردة الشعبية. ولكل مفردات اللغة واللهجة معانٍ وموسيقى يبحر الشاعر ويحلم ويرسم ويضع اللمسات من خلالها على عملية البناء وصولاً إلى سيمفونيته الشعرية والشاعرية.

لهذه السيمفونية طرائق في الأداء لا تنفصل عن طبيعة الشاعر وموهبته الشعرية.

أريد أن أوضح عبر هذه الرؤية الشخصيَّة للشعر، طريقة أداء السيمفونية الشعرية لأعبر عن قراءتي كمتلقٍ وكسينمائي لأداء سمو الأمير الفيصل التي كنت أراقبها مثل أيّ سينمائي يراقب الحدث والنَّاس والحياة.

هناك شعر تقرؤه وعندما تستمع إليه تتمنى لو كنت ما استمعت إليه لأن الشاعر لا يملك موهبة الأداء فتبدو كتابته الشعرية أفضل بكثير من قراءته الشعرية التي تحطّم روح القصيدة عند أدائها.

هناك شعر لا يندرج في عالم الشعر فيقف الشاعر أمام جمهوره محاولاً إضفاء معنى على ما كتب من خلال طبيعة الأداء فانظر إليه كممثل أكثر مما انظر إليه كشاعر.

هذا التَّباين بين الشعر والأداء وبين الأداء والشعر يمثِّل الشرخ في جدل العلاقة بين لحظة ولادة القصيدة ولحظة أدائها.

أنا كمشاهد وكمستمع احترم طقوس المشاهدة والاستماع فأعزل نفسي عند المشاهدة عن كل المؤثِّرات الخارجيَّة تمامًا مثل ما أكون في صالة السينما وفق طقوس الصمت والظَّلام فينتظم تركيزي وأراقب الأداء والتعبير وحركة اليدين وأراقب مدى مصداقية الشاعر في الأداء ومدى العلاقة الجدلية بين المفردة المكتوبة وأدائها.

الشعر وقصيدة الشعر أو سيمفونية الشعر، وهو التعبير الأدق للشعر، لأن السيمفونية الموسيقية هي وحدها التي لا يمكن إخفاء النشاز فيها فالصوت الموسيقى قائم على الهارموني - سيمفوني، ولذا ينبغي أن تكون القصيدة بِكلِّ كلماتها وبناء الجملة فيها وإيقاعها وموسيقية ذلك الإيقاع تمامًا مثل السيمفونية الموسيقية التي لا تقبل النشاز. وهذا النَّوع من الشعر يكاد أن يكون نادرًا وهو وحده االذي يؤطر الشاعر عن غير الشاعر.

إن لحظة ولادة سيمفونية الشعر هي لحظة تشبه حلم اليقظة وأحيانًا حلم المنام الجميل. وهي مع ولادتها ولأنها ولادة إنسانيَّة وليست سماوية، فإنَّ عامل النحت والرسم يدخلان فيها. هذه الولادة الجميلة التي تدخل فيها التقنيَّة إلى جانب الحلم تتكون عبر معاناة وحوافز ومواقف وعواطف وأحلام صبا وطفولة ورؤى غد وبحار أبدية لا نهايات لها.، ثمَّ تولد القصيدة وتتدخل التقنيَّة وما يطلق عليه التكنيك.

لهذه الولادة علاقة بالأداء الشعري. فالسيمفونية الشعرية التي ولدت وتَمَّ تدوينها عبر منامات واعية وأحلام تولد ثانية في لحظة الأداء وهي الأصعب، تولد نفسها ثانية ولكن بانسيابية، تمامًا مثل ما يكتب الموسيقار الكلاسيكي سيمفونيته، وأؤكد هنا على تعبير الكلاسيكي، لأن السيمفونية هي من نتاج العصور الذهبية الأكاديمية للفنون، ولكن في لحظة العزف الموسيقي والأداء تبدو السيمفونية وكأنَّها ولدت تلك اللَّحْظَة من على منصة الأداء.

صعب الأداء في مثل تلك اللَّحْظَة شعرًا، أن تتوافق العلاقة جدلاً بين الولادة الأولى والولادة الثانية ذاتها في أداء تلك المقطوعة الموسيقية شعرًا.

سمو الأمير خالد مثال تلك العلاقة الجدلية بين الكتابة والأداء.

عندما يلقي سيمفونياته الشعرية ولا مرة من المرات انتابني الشُّعور أن ذلك الشعر مكتوب بالفصحى أم بالمفردة المتداولة أو الشعبية. لأن قوة التعبير في شعره وأناقة الكلمة تشكلان نوتات تلك اللغة العالميَّة مهما اتخذت المفردة من شكل.

قدرة الشاعر الأمير خالد الفيصل هي موهبة وعشق ومصداقية، وهذه المواصفات هي التي تحقق مفهوم جدل العلاقة بين الكتابة والأداء. فهو يستدعي الشعر الذي يُؤدِّيه كما في لحظة الولادة، فتشعر وكأن القصيدة قد جاءت من الحلم متقنة ومكتملة وكأنه لم يكتبها ولم يصنعها بعد الكتابة ليضعها في صيغتها السيمفونية الأخيرة التي يمكن عزفها دونمًا نشاز.

طبقات صوت الأداء ونغمته تأخذ قرارها في شدة الصوت من دون أيّ افتعال، حيث المفردة تفرض صيغة أدائها في شدة الصوت أو في مستوى طبقة الصوت، تمامًا مثل ما يفرض قرار النغمة الموسيقية أو جوابها. فتبدو الأصوات منسجمة ولذا يأتي تأثيرها عفويًا.

هناك ما نعرفه نحن الذين درسنا علم الدراما وفن البناء الصوتي والبصري، خيوط وهمية ولكنَّها مادية تبدو وكأنَّها وهمية لأنّها غير مرئية ماديًّا مسارها بين عين الشخص الذي يُؤدِّي المونولوج المسرحي والشعري وبين رؤية ووجدان المُتلقِّي. وهذه القدرة تكونها ثقافات كثيرة تؤسس الثِّقة بالنفس وتؤسس الثِّقة بالإبداع فتنسحب كل أشكال الضباب من فسحة المكان ويتحوّل المكان إلى ما يشبه بيوت العبادة المتسمة بالهدوء والتجلي. فتتكون علاقة التلقي مع المبدع وتتشكّل لحظات الاستيعاب والانفعال العاطفي والحسي والعقلي لدى الجمهور المستمع والمُتلقِّي والمشاهد. وقلَّة أولئك الذين يمتلكون هذه السمة التي أساسها قوة الشخصيَّة والخزن المعرفي والثقافي والقناعة بالمدون وعلاقة هذا المدون بقوة الحلم الشعري.

الشاعر الفيصل يمتلك هذه السمة في أدائه الشعري.

الانسجام «الكامل في الأداء» يحطّم هذه الخيوط الوهمية - المادِّية، ولكن الاحتفاظ بنسبة من اليقظة التي تنفصل عن الانسجام الكامل هي ضرورة تتيح فرصة التَّحكم في مسار تلك الخيوط الوهمية - المادِّية.

هذا الانسجام والنسبة اليقظة لمراقبة الانسجام هي القادرة على شد الجمهور المُتلقِّي ليس فقط لعملية الأداء بل أيْضًا لاستقبال موسيقى الشعر ومضامين مفردات القصيدة والصعود مع بنائها نحو قفلتها التي يتقنها سمو الأمير الشاعر صناعة وتكنيكًا.

هذه السمة هي أيْضًا من سمات شخصيَّة الأمير الشاعر الذي تأتي عنده لحظة الأداء لسيمفونياته الشعرية كما لو أنها ولدت تلك اللَّحْظَة مكتملة البناء واللمسات اللونية والجمالية.

سينمائي وكاتب عراقي مقيم في هولندا sununu@ziggo.nl هولندا
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 7591 ثم إلى الكود 82244

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة