Culture Magazine Saturday  05/10/2013 G Issue 414
فضاءات
السبت 29 ,ذو القعدة 1434   العدد  414
 
في زمن الفدائيّين كتبتُ الشِّعر
يوسف عبد العزيز

 

على كتف القدس نشأتُ، في تلك الجبال العالية التي تطلّ على السّهل السّاحلي الفلسطيني، والبحر المتوسّط من جهة الغرب. ثمّة طبيعة ساحرة هناك، مشاهد مقتطعة من الفردوس، تبتكر الشّعراء والعشّاق. في الطفولة كنت صامتاً أكثر مما ينبغي، كنت في الواقع مشغولاً بذلك التّشكيل الخرافي الذي كان يترقرق أمام ناظريّ. بعينيّ باشق رحت أفترس الجمال وأنهب كلّ شيء. جسدي الضّئيل كان بمثابة بئر عظيمة من الصّور. على ذلك الرّمح الطّريّ رمح الطّفولة اتّكأتُ، وأصبحتُ شاعراً فيما بعد. في قرية (بيت عنان) ولدت أواسط الخمسينيّات، وتحديداً أيّام العدوان الثلاثي على مصر، وفي قرية (قطنّة) المجاورة التي هي مسقط رؤوس أسلافي عشت طفولتي حتى عام 1967.

في ذلك العام وقعت الحرب، وارتحلنا إلى (عمّان). بعد ثلاث سنوات من ذلك الرّحيل سوف أكتب القصيدة الأولى في حياتي.. في ذلك الزّمن الجميل زمن الفدائيين كتبت الشّعر. مفتوناً بقاماتهم الممشوقة، بلباسهم المرقّط، وأيديهم التي تمسك البنادق رحتُ أغمض عينيّ على حلم العودة القريبة إلى فلسطين.

فلسطين، فلسطين! أيّة كلمةٍ سحريّةٍ هذه! أيّة نارٍ تشبّ في الجسد والرّوح! أيّة ريحٍ جسورةٍ تحلج الرّؤوس وتقذف بها في عاصفة الأحلام!!

فلسطين، فلسطين! ما عشتُ حياتي إلا من أجلها! ما ذهبتُ إلى مكان، ما تجوّلتُ في طرق، ما رعش قلبي أو تنفّستُ إلا كي أرعى قمرها الأشقر الذي يتدحرج مثل طابة الماء على قطيفة الغيم، وأتبع حجلها الذي يدفق مثل أثداء النار من أكمام الحقول. ما كتبتُ الشّعر إلا كي أعرجَ إلى تلك القمم العالية المدقوقة في لحم السّماء، وأكبكبه في طريق القرويّات العائدات من كرومهنّ وهنّ يحملن سلال التّين والعنب.

عبر تجربتي الشّعريّة التي تمتدّ على مدار ثلاثةٍ وأربعين عاماً، اكتشفتُ أنّ هناك ثمّة علاقة عظيمة تربط بين فلسطين والقصيدة، وأنّ القصيدة التي أكتبها ما هي إلا فلسطين صغيرة مرسومة على الورق.

لولا الشّعر لكنتُ هلكتُ، لولا الشّعر لكان جسدي كهفاً تصفر فيه الجان، وتلعب فيه العناكب. وهكذا، فحين أكتب قصيدةً جديدة أتنفّس بعمق، وأحسّ بجدوى الحياة، وأشعر أنّني لا أزال ذلك الطّفل الذي يتبع الفراشات والعصافير في براري القدس. كلّ قصيدة جديدة أكتبها تقرّبني من بيتي وحقولي. كلّ قصيدة جديدة أكتبها تغسلني من غبار المنافي، وتفتح جسدي على شتاء شرس من الأزهار والموسيقى.

في تلك التّجربة اكتشفتُ أيضاً، أنّ فلسطين سؤال مفتوح على الحريّة والجمال، وأنّ دمها الذي يسيل عند خاصرة المتوسّط، يتسرّب في الأرض، ويختلط بدماء غزيرة تنزف من قلوب فلسطينات كثيرة تنتشر على سطح الكوكب. لم يكن الغزاة الصّهاينة الذين جاءوا إلى أرض الرّسالات والأنبياء، وأقاموا المحرقة تلو الأخرى لشعبها النبيل الذي قدّم للبشريّة أوّل أبجديّة في التّاريخ سوى مجرمين ضالعين في العداء للإنسانيّة. ما الذي يفعله الفلسطيني إذن، وهو يرى مستقبله الذي يفترسه الصّاروخ والدّبابة، غير أن يشدّ على جرحه الدّامي ويقاوم! وغير أن يحبّ الحياة كما يقول الشاعر الكبير (محمود درويش)، ويحتفي بالجمال، ويكتب الشّعر!!

في الطّريق إلى فلسطين أكتبُ الشّعر، ربّما لأتخفّف من ثقل الصّليب الذي شدّه الأعداء فوق ظهري. الطّريق طويل، ولكنّني ما من مدينةٍ مررتُ بها إلا وحرّضتُها على الرّقص، ما من حجرٍ صادفتُه إلا ودرّبتُه على الطّيران. بعد قليل أصل، ربّما بعد مجزرة، ربّما بعد ألف من السّنوات!

* مقدّمة أعمالي الشعرية النّاجزة التي ستصدر قريباً عن بيت الشّعر الفلسطيني في مدينة رام الله.

Yousef_7aifa@yahoo.com - فلسطين

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة