Culture Magazine Saturday  05/10/2013 G Issue 414
فضاءات
السبت 29 ,ذو القعدة 1434   العدد  414
 
حماية الفتوى
عبدالله السعوي

 

من يستعرض كثيرا من الفتاوى المعاصرة ويتأمل في طبيعة تشكلها يدرك أن جزءا كبيرا منها ليس ناجما عن قراءة دقيقة للواقع وعن وعي مفصل بسياقاته وإدراك ناضج لمتطلبات المرحلة وعلى نحو يهدي إلى استنباط موضوعي للحكم الشرعي الذي ينسجم مع متطلبات الزمان وجغرافيا المكان وضرورات الواقع المتحرك.

الواقع ديناميكي وملامحه زئبقية وصيرورته لا تكف عن الاطراد، والفقيه الذي لا يعايش تشكلات المرحلة ولا يواكب تحولات العصر ستتوارى لديه القيمة الموضوعية وإن حضرت ذات سياق ما فهي في أشد حالات الضمور!

هناك من الفتاوى من لا تنتمي الى روح العصر ولا تمت الى سياقاته الزمكانية بأدنى صلة وذلك بفعل الغياب الملحوظ لأحد أبرز مقومات إسقاط الحكم وتنزيله في مظانه ألا وهو وعي الواقع بوصفه المقدمة الشرطية الأولية الضرورية لفهم ما يجب فيه وما يفترض تنزيله عليه من المعطيات الفقهية، وبالضرورة العقلية فإن تواضع مستوى الإدراك لطبيعي للسياقات المتعينة وضعف الاتصال بملابساتها وعدم القدرة على رسم حدود الظاهرة موضع البحث سيقلل تلقائيا من موضوعية الحكم الفقهي بل وقد تبدو الفتوى هنا وكما لوكانت عائقا يكبل حركة المجتمع ويعرقل انطلاقته بل ويجعله بالضرورة منتميا إلى أدغال التاريخ!

كثير ممن يتصدى للخوض في الشؤون الفقهية ينتمون الى الخط التقليدي فيبدو لك أحدهم وكما لو كان يعيش في غيبوبة عن الواقع فأحكامه لا تنم عن بنية فقهية متماسكة وفاعلة في ميدان الفضاء الفقهي الرحب بقدر ما تنم عن وعي قافز على اشتراطات المعاصرة, متسم بطابع التقليدية والجمود وعدم مواكبة المستجد فهو يعيش اللحظة الفيزيائية لكنه منفصل غاية الانفصال عن التفاعل الفاعل مع أدبياتها، نعم هو قد يكون غارقا في بطون الكتب لكنه وبذات القدر يعيش غربة حادة عن الواقع وهو يدرك - لكن على المستوى النظري فقط!- أن الحكم لا يستوي على سوقه منهجيا حتى يقترن بقدر عال من الاستصحاب الحكمي بل والذكري أيضا لعملية التصور كأداة فعالة سينعكس خفوت ألقها سلبا على مجريات الحكم ولاغرو، فكل حكم فقهي لا يتزامن معه إحاطة ناضجة بخطوط المتكون المادي وبماهية القوى المحركة لكافة تلاوينه وبطبيعة العناصر التي تتبادل التأثر والتأثير فهو ليس الا ضربا من المجازفة والتجهيل الذي يراد له التوسع والامتداد.

إنشاء الفتوى من غير وعي لمظان تنزيلها ليس ممارسة معرفية حتى وإن بدت كذلك عبر ذلك الزخم النصي والاستشهادات المتنوعة إنها ليست ممارسة فقهية بقدر ما هي ضرب من العبث والتدهور الفقهي الذي يعمق حالة الجهل ويوسع مداه!

حماية حرم الفتوى ليس فقط من الرويبضة النكرة الذي يجعل من مصادمة النصوص والانتهاك الصارخ للقيم جواز عبور وتأشيرة مرور نحو الأضواء، فمثل هذا قد تلبسه الجهل وتلبس به وعلى نحو مكشوف إذ مجرد نطقه كاف لتعريته وكان من الأولى أن يستر جهله بصمته ولا يفضحه بنطقه وإنما جناب الفتوى يفترض أن يصان حتى ممن يحفظ بعض المتون ويستدعي بعض الشواهد لكنه وعن سبق ترصد وإصرار يتعمد إغفال أثر العنصر الواقعي وأثر تحولات المادي على حيثيات الحكم، ومن ثم تأتي فتواه وعلى نحو يعزز غياب العلم لصالح الجهل وطغيان حالة من اللا فقه على المشهد الفتوائي، وهذا هو سر القرار الفقهي الناص على ضرورة الحجر على المفتي الماجن بل حتى (أبوحنيفة) الذي يقرر عدم منطقية الحجر على السفيه وذلك لأبعاد إنسانية فإنه يرى ضرورة الحجر على المفتي الماجن الذي يمارس الحيل للالتفاف على الحقيقة وتغييب تجلياتها.

إن شعور المرء بالثراء الفقهي وتصدير العامة له وتبوؤه مكانا عليا في سدة القيادة قد يحدوه - شعر أم لم يشعر - إلى الخوض في تفاصيل يجهل حقائقها فيتناول مفردات لا قبل له بتجشم عنائها، وبالتالي ينزل الأحكام في غير سياقاتها، وهذا يعني أن الفقيه هنا يمارس نوعا من التجني على الشريعة التي ينبري للتحدث باسمها,إنه هنا يواقع محظورا ويستسيغ ما لا يستساغ في الوقت الذي كان الوازع الديني يفترض ضرورة اتخاذ أشد حالات الحذر والحيطة القصوى حتى لا يرتطم بمستنقع هذا الإشكال المعرفي.

Abdalla_2015@hotmail.com - بريدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة