Culture Magazine Saturday  05/10/2013 G Issue 414
قراءات
السبت 29 ,ذو القعدة 1434   العدد  414
 
إنهم يقتلون الجياد!
قاسم حول

 

«بغداد خارج بغداد» هو عنوان فيلمي الروائي الجديد الذي أقوم بإخراجه في أصعب ظروف إنتاج عرفتها في تاريخي السينمائي. فأنا الآن في الوطن العراقي حيث أقرت بغداد عاصمة للثقافة العربية. وظروف الإنتاج السينمائي ليست سهلة في وطن تهدمت فيه القاعدة المادية للإنتاج ومنها السينمائي بسبب الحروب والمصائب والحرائق التي مر بها الوطن العراقي.

فيلمي هذا يتحدث عن حقب ثقافية عاش ويعيش فيها المثقف العراقي. فبعد قراءة واعية لتاريخ ثقافي وجدت الغربة الوجودية والوجدانية هاجس المثقفين الأزلي.

فالمثقف متمرد حتى في الجنة، فكيف وهو في النار!!

غربة السياب أن يغادر وطنه الذي أتعبه بل أتعبه المثقفون فيه قبل الناس فهاجر إلى الكويت ليعود نعشًا في يوم ممطر هي غربة تستأهل البحث والتصوير وإعادة صياغتها درامياً.

غربة الرصافي وهو ينام في غرف الفنادق التي يأمها المسافرون المتعبون وهو يصيح:

«سكنت الخان في بلدي كأني

أخو درب تقاذفه الدروب»

هي غربة تستأهل البحث والتصوير وإعادة صياغتها دراميا.

غربة بلند الحيدري في بيروت وهو يصيح «يا كلكم. يا غيبة الحاضرين. يا أيها المارون كل ليلة ببيتي المنطفئ الأضواء. أنا هنا أموت من سنين ..» هي غربة تستأهل البحث والتصوير وإعادة صياغتها دراميا.

كل هؤلاء ومنذ غربة الكاتب المجهول الذي صاغ ملحمة كلكامش الباحث عن الخلود قبل ملايين

السنين كتبتها في حكاية درامية متداخلة ضمن شكل جديد لأقول شيئا عن المثقف العراقي عبرالماضي والحاضر وأعمل على إنتاجها سينمائيا.

سوف أبدأ التصوير .. وسوف أتعب لأنني أعمل في مهنة البحث عن المتاعب، ليست مهنة الصحافة بل مهنة السينما في العراق، حيث تدهورت الحال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية.

وأنا أبحث عن مواقع التصوير المناسبة لمشاهد كتبتها عن غربة المثقف العراقي في عام بغداد عاصمة للثقافة العربية، وأنا ادقق في مواقع للتصوير في بغداد وهي خارج بغداد في غربتها لصياغة الماضي بشخوصه باحداثه بمواقعه التي تغيرت، كان عندي مشهد عن أول ظهور للصورة المتحركة في بغداد وعن الأعجوبة التي دخلت الوطن في عام 1911 تاريخ أول عرض «سينما توغراف» في بستان في منطقة العباخانه في بغداد. وكنت أبحث عن المناسب وأن يكون قريبا من شارع معبد تمشي فيها عربات تجرها أحصنة يستقلها الوالي التركي والشاعر الزهاوي لمشاهدة فن السينما، فن الصورة المتحركة.

وقفنا عند حاجز عسكري. مشينا الهوينا في سيارتنا التي تضم مدير الإنتاج والمصور ومساعدي الإخراج والعبد الفقير لله المخرج كاتب هذه الكلمات، سمعنا صوت إطلاقة مرت من أمام السائق. فأوقف محرك السيارة وبقينا في وجوم ننتظر الإطلاقة الثانية أو الرش البارودي!

نزل مدير الإنتاج الصديق الفنان نزار السامرائي وهو أحد ممثلي الفيلم. وقف أمام الشخص الذي يكمن في كابينة عالية تحيط فيها المتاريس وصاح «لماذا تطلق علينا النار؟!»

هذه الصيحة أثارت وجوماً ثم لغطا ثم صحا المسؤول العسكري الذي كان نائماً.

ماذا كان سيحصل لو مات بطل الفيلم؟

ماذا كان سيحصل لو مات مخرج الفيلم؟

ماذا كان سيحصل لو مات سائق السيارة؟

ماذا كان سيحصل لو مات مدير الإنتاج؟

ماذا كان سيحصل لو مات مصور الفيلم؟

هي طلقة واحدة، طلقة تنبيه لي لكي أعيد النظر في صيغة البحث عن مواقع التصوير!

عندي ثلاثة وتسعين موقعا داخل بغداد ومدينة الناصرية، فكيف سأختارها كي أنفذ مشاهد الفيلم الصعبة!؟

تذكرت فيلم «إنهم يقتلون الجياد» للمخرج سدني بولاك. الذي صور الأزمة الاقتصادية التي مر بها العالم ومرت بها أمريكا بعد الحرب العالمية الأولى. وقلت لو نجح ذلك العسكري الذي لا أدري ماذا كان يدور بذهنه وهو يطلق علينا النار، لتوقفت فكرة الفيلم ولربما كتبت عنا رواية كتلك التي كتبها «هوراس مكوي» عن صاحب المزرعة الذي أطلق النار على حصان متعب متمرد!

هذا هو تمردنا على الواقع أن ننتج فيلما نعبر فيه عن غربة المثقف في التاريخ وغربة المثقف العراقي في عراق أنهكته الحروب وتغيرت فيه النفوس وبكى فيه المثقف الذي بات يبحث عن مكان يذرف فيه دموعه حيث باتت مثل هذه الأمكنة محظورة ظوبات المثقف يبحث عن مكان آخر يبكي فيه. مكان سري يصعب على الآخرين أن ينظموا فيه ليبكوا سوية في آخر الليل.

مضى علي وانا أحاول تحقيق هذا الفيلم أكثر من سبعة شهور ولا تزال أمامي الفترة الصعبة أن أستدعي فيها التاريخ أمام الكاميرا ونحن لسنا رسامين نرسم لوحة تشكيلية في بيت ولا شعراء نكتب القصيدة على ساحل البحر بل نحن سينمائيون علينا أن نكتب الحقيقة عبر كاميرات وأضواء وسيارات وممثلين ومساعدين ومعدات صوت. نحن تظاهرة ثقافية كبيرة نعيشها كل يوم في الشوارع والحارات والبيوت من أجل تصوير مشهد يستغرق ربما ثواني وفي كل مشهد يستغرق يوما أو أياما علينا أن نحسب حسابات ثانية صعبة كي نتحاشى خطو ط النار.

أنهم يقتلون الجياد .. أليس كذلك؟!

k.h.sununu@gmail.com - هولندا
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 7591 ثم إلى الكود 82244

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة