Culture Magazine Saturday  05/10/2013 G Issue 414
قراءات
السبت 29 ,ذو القعدة 1434   العدد  414
 
الكأس الأخيرة
هيفاء صفوق

 

تتناثر البودرة البيضاء على قسمات العجوز. تتطاير لسقف الغرفة. رائحة البودرة تمتلك المكان. تختفي ملامح المهرج العجوز؛ يضحك قليلاً، يتأمل ملامح وجهه الغريب، يردد: وما الغريب؟ يضيف ألوانه البراقة بعناية فائقة، تأخذ من وقته ساعة كل يوم.

يتبادل مع صديق العمر ضرب الكؤوس. إنه صديق العمر، الفرح والألم. يتجرع كأسه الأخيرة. يخاطبه صديق العمر: تمهل؛ لم تنتهِ وصلتنا الأخيرة. يرد عليه: أنا أثق بكأسي الأخير. يضحك صديق العمر: كل ليلة تكرر نفس الحديث. يجاوبه: الليلة مختلفة يا صديقي؛ أشعر بالفرح ورغبة بالطيران، كأني صبي الأمس، اتركني أمازح كأسي الأخيرة، فقد اعتادت مشاهدتي عارياً ليالي طويلة.

***

الأصوات تعلو أكثر. صرخات الجمهور لم تتوقف. التصفيق يفوق الدهشة. تتعالى الضحكات. الأطفال يجلسون في المقاعد الأمامية، يثيرون الضجيج كلما حاول المهرج التسلق أكثر فأكثر. يهذي المهرج بكلمات غير مفهومة؛ مزيد من التصفيق، مزيد من الموسيقى.

***

نغمات الموسيقى تذوب في المكان، تخاطب الجمهور، تزرع سحرها في قلوب الحاضرين. يترنح المهرج في أعلى العمود في وسط المسرح، يتجاذبان المهرج والموسيقى، يغيب عن الحضور، يحلقان في سماء الإبداع، يقفل عينيه الاثنتين؛ يختفي الجمهور، يشعر بذبذبات الموسيقى تسري في دمه الملون التي كثيراً ما تشبه ملابسه المزركشة. لم يفهم الجمهور ماذا يحدث إلا بعد نصف ساعة من الزمن، يصرخون: هناك خطر، انتبه السقوط، توقف عن الدوران. ترتفع الأصوات محذرة: خذ الحذر، الحذر، الصبية أمامك.

***

تتقدم الشرطة، تحاول السيطرة، بين الجنون والفنون. المهرج العجوز يهرب بيأس محاولاً اللحاق بالمجهول بكأسه الأخيرة. أدركت الشرطة أنه في خطر، العمود يصبح أكثر جنوناً، يخاطب الشرطة: ماذا تريدون، إنها رقصته الأخيرة.

***

يفتح المهرج عينيه، يشاهد الصبية وهم يتأملون الألوان، لم يفهمه غير الصبية، يردد لا نريد القيود. كأسه الأخيرة كانت عادلة، جعلته يوازن بين الموقف ونظرات الصبية. كأسه الأخيرة هزمته كثيراً، لكنها اليوم أعطته جائزة الموسم، جائزة العمر.

***

يرتفع صوت الصبية متجاوزين الخوف من الشرطة، تضرب أقدامهم الأرض، يرتفع صوت الموسيقى, يدرك المهرج «قد وصلت الرسالة»، يردد: لم تخذلني كأسي الأخيرة.

***

يسقط وسط ذهول الحاضرين؛ الصمت يعم المكان، يردد صديق العمر: لقد خدعتني؛ لقد قلت لي إنها كأسك الأخيرة، وليس يومك الأخير. لقد خدعتني. هدوء يعم المسرح. يأتي صوت من بعيد: أطفئ الإضاءة, أغلقوا الأبواب.

- الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة