Culture Magazine Monday  21/05/2007 G Issue 199
فضاءات
الأثنين 4 ,جمادى الاولى 1428   العدد  199
 
«ابن جّراح» وشجون وجراح طيار سعودي مرهف!
يوسف بن عبدالرحمن الذكير

 

 

(وهم رمادي) باقة قصصية شجية، فريدة، رائدة، جديرة باهتمام كل ناقد أدبي متابع، ومتذوق شغوف بالأدب السعودي القصصي المعاصر.. فرادتها تنبع من تنوع مضامين قصصها وتعدد أساليب خواتيمها.. فالمضامين تتباين زمانا ومكانا ما بين ذكريات صبا عابر، تفتح على الحياة ما بين مجتمعات دروب وأحياء المدينة المنورة التي قد تثير دهشة الكثيرين فيما كانت تتمتع به من تسامح متيح للتعارف ما بين فتيان وفتيات، وتعايش بلا تعصب ولا حساسيات ما بين مواطن مهاجر وغريب مجاور وعائلات متباينة الأعراق والطوائف والأصول المنحدرة من مختلف بلدان العالم الإسلامي في انسجام إسلامي تام، يجسد بكل دقة وروعة روح ورسالة الإسلام الداعي للتعارف والتعايش ما بين الشعوب والناهي عن التمايز ما بين الناس، مهما اختلفت الأجناس، مقارنة بما يشوب عالم اليوم من دعوات تكفيرية إقليمية، وصدامية دولية ما بين الشعوب والحضارات.. اختار لها المؤلف خير عنوان معبر في (انطفاء الفوانيس)!

فيما أزمان قصص أخرى، تتمازج بحبكة قصصية فريدة فيها، مرويات زمن غابر، مع سلبيات زمن حاضر، أبرع ما تتجلى في سطور قصة (غضبان الجبال)!

تباين أزمان لا يضارعه سوى وتتسم به المجموعة من ثراء في تفاوت أماكن قصصها، وبراعة تعدد أساليب خواتمها.. أماكن لا تتفاوت ما بين بادية وحواضر فحسب، بل في تخوم ومسالك تتناثر من أقصى أطراف الوطن المترامي، إلى ربعه الجنوبي الخالي، تحمل مسميات قد لا يجدها قارئ متلهف لمعرفة تضاريس البلاد، سوى في مؤلفات رحالة أجانب غوابر، أو رواد متفانين نوادر من أمثال الأنصاري والجندل والراحل حمد الجاسر.. وبراعة خواتم لقصصها تتعدد ما بين، مشهد سريالي ساخر يختتم به قصة (مذيع وطننا)، وجملة حوارية تلخص مجمل ما تحمله القصة من رسالة كما في قصة (العبور الخالي)، أو تعمد ترك المتلقي في متاهة طلاسم لغز يحتمل مختلف التأويلات، في ختام قصة (غضبان الجبال).. أو الرمال!

أما الريادة، فلا تقتصر فحسب على كون المجموعة من تأليف وإبداع طيار سعودي جريء، مرهف الإحساس، نال درجة الماجستير في علوم الطيران العسكري من أكاديمية (كنغز كولديج) اللندنية المرموقة، وناب في قيادة الأسراب في مهمات قتالية، مما أهله لتدريس من أعقبه من أجيال الطيارين العسكريين الشباب، أو مدى ما يتمتع به من خزين ثقافي وخلفية أدبية، تفصح عن مدى رحابة آفاقها سطور قصة (هذيان طاووس)، وجزالة وثراء ما تزخر به سطور كل قصصها من تعابير، تبرز مدى عمق واتساع اطلاعه على أساليب مشاهير الأدباء العالميين والعرب في ميادين الرواية والقصص القصيرة، التي سبق أن شهدت بواباتها ولوج العديد من السياسيين والمفكرين، بل وحتى أطباء ومهندسين ومختلف المهن الأخرى، إلى ساحاتها ولكن ربما تكون هي المرة الأولى التي يقتحم بل ويطير فيها طيار حربي، أجواء الأدب العربي!

تلك ريادة، قد تكون بحد ذاتها مثار شهية الكثيرين للاطلاع على خفايا عالمه المثير، وما قد تثيره من دهشة، بإزاحة مؤلفها الستار، عما توفره أحدث المقاتلات الأمريكية من إمكانات تقنية متطورة تتيح لطيارها التمتع بتناول تفاحة أو شطيرة خفيفة إبان دوريات استطلاع طويلة، بل وحتى تصفح كتاب أثناء طلعات دورية مملة مكرورة، رغم صغر مقصورة القيادة، حسبما تميط عنه اللثام سطور من قصة (أغسطس 2004م) الشجية الصفحات، إحدى ثلاث قصص طافحة بالجراح، مشحونة بالشجون!

قد لا يهز وجدان الإنسان شيء، قدر قراءة المرء لقصص وروايات مآسي ومعاناة إنسانية. فلا غرابة إن خلدت مأساة هاملت، شكسبير، ومعاناة جان فالجان، بؤساء فكتور هيجو، ولا عجب أن أحرزت جوائز نوبل الأدبية، معاناة عزلة مجتمعات ماركيز لمائة عام، ومعاناة بحث الإنسانية عن العدالة، عبر الأجيال في سردية نجيب محفوظ الملحمية في رمزية، أولاد حارتنا، لأبناء الإنسانية جمعاء، رغم أن كل تلك الروايات من نسج الخيال، فكيف الحال، إن كانت قصصا واقعية، مستقاة من تجارب الحياة؟!

قصة (ضحك العملاق) لا تتحدث عن معاناة شخصية مع عمالقة تتحكم في مغاليق الأبواب، تفتحها لمن تشاء وتغلقها بوجه من تشاء، بقدر ما ترمز إلى ما تعانيه غالبية شعوب العالم من تحكم فردا وحفنة أفراد في مقدراتها، بل ليس من قبيل التهويل والمبالغة، إن أثارت تلك القصة في الأذهان ما يعانيه عالم اليوم، من تحكم عمالقة سلطة أحادية القوة، في مصائر شعوب بأكملها، تحاصر وتغزو وتدمر وتقتل وتهجر الملايين منهم، دونما وازع من ضمير أو دين أو أخلاق، ولا رادع من قانون أو أدنى التفات واحترام لحقوق الإنسان!

فإن كانت أولى قصص المعاناة، أزلية السمات في انطباقها على ما عانته البشرية، من عمالقة تتحكم بالمقدرات والمصائر، في تاريخها الحافل بفراعنة طغاة، وأباطرة قساة وجبابرة الغزاة، منذ عهود الإسكندر الأكبر، ووحوش المغول والتتر، إلى عصر عتاة رعيان البقر.. وشمولية الصفات في اتساعها لمعاناة غالبية الفئات، في معظم المجتمعات ممن يتحكم في شتى منعطفات دروب الحياة، لا من عمالقة فحسب، بل وحتى من أقزام قد يغلقون ويشرعون الأبواب لمن يشاؤون أو يجبرون!!

فإن ثاني القصص أكثر خصوصية في سردها المآسي شريحة محددة، ومعاناتها النفسية المعذبة، إبان حقبة تاريخية مثخنة بالجراح.. قصة بوح حميمية مستقاة من واقع تجارب حياة المؤلف المهينة كطيار حربي مقاتل، تصف ما يحدث بمهنته من جسيم المخاطر، التي قد لا تبقي أحداثها وحوادثها من بني مهنته سوى أشلاء محترقة متناثرة، يجمع يسير ما يعثر عليه منها، لتوضع في كيس داخل دمية قطنية مغطاة، تحمل على نعش إلى المقبرة، في تمويه متعمد لمظاهر، هدفها الحفاظ على مشاعر، من خلفته تلك المآسي من أيتام وأرامل، كما في قصته المهداة إلى اثنين من رفاقه الشهداء!

ومعاناة نفسية حارقة، إبان حقبة حرب الخليج وما خلفته من دمار، وتلاها من حصار، حين يسرد بشجاعة متناهية، وصراحة بالغة، ما عاناه شخصيا من اضطرام وعذاب، في سطور مضمخة بالحرقة والحسرة، مفعمة بالجرأة، ما فحواه:

(لا يرموك.. ولا حطين.. ولا حرب حقيقية مع عدو يمرغ أنفك كل يوم فيما يداك مقيدتان.. وإنما حرب كومبارسية، أنت ومن معك فيها من بني قومك. مجرد حاشية لإضفاء الشرعية.. يمنحك في نهايتها جنرال أمريكي وساما على انتصارات وهمية، تضاف لأوسمة أخرى، لا تساوي ثمن طبعة شجية من كتاب كليلة ودمنة.. باختيار ذكي متعمد، قد يقصد كليل ودمعة!!

أما ذروة المعاناة التي مهد لها في نهاية القصة السابقة، من خلال وصفه لتحوله قبيل التسريح، بقدرة قادر، من راسم لخطط عسكرية وقائد لأسراب قتالية، إلى مسؤول عن تموينات أقلام ومساطر ومناديل ورقية!.. دون أن يشفع له سيف شرف الأولوية على دفعته، أو تفانيه في أداء واجبه، حين لم تقعده بآلام وحمى سرطان (الليمفوما) عن ارتقاء سلم طائرته وهو يعرج متكئا على قدم واحد، بعدما نخر السرطان عظامه!

ذروة تبلغ أوجها في القصة الثالثة، التي توج اسمها كامل المجموعة عن جدارة واستحقاق، لما تكتنزه من نوادر تفاصيل، قد تبعث القشعريرة في جسد كل مرهف، والحمد والابتهال على لسان كل مؤمن، على ما يتمتع به من نعم الصحة، لا في وصفها فحسب لعلاج متناهي الإيلام، بالغ القسوة، دام اثني عشر شهرا، تخللتها كلها جرعات من خليط عقار سام، تحقن طوال أربعة أيام متواصلة بلياليها، بمخضة مدمجة في قنينة مربوطة بحزام على الجنب، تشاركه الصحو، وتحرمه النوم، وتجبره على الاستحمام بيد واحدة، فيما يده الأخرى، المغروسة الشريان بإبرة موصولة بقنينة العقار، مرفوعة للأعلى تجنبا لتسرب المياه.. خليط كان من أشده إيلاما، البلاتونيوم المشع، الذي لم يسبب تساقط خصلات الشعر فحسب، بل ونوبات غثيان في منتصف الليل، وموجات آلام مبرحة كاسحة، تدفعه إلى حالة جنونية تكاد تجبره على خبط رأسه بجدران دورات المياه، إلى درجة تفقده السيطرة على جسده ووعيه!

ولكن رغم كل تلك المعاناة.. انتكس العلاج وتناقصت مناعة الجسم، حتى أشرف على الهلاك، ليروي بعد ثماني سنوات علاجا أدهى وأقسى في مستشفيات هيوستن، يتطلب أخذ عينات من عظام الجمجمة ونخاع عظام أوراك الحوض، بإبرة مثقاب لأكثر من مرة في أكثر من موضع، تدوم كل منها 25 دقيقة من برم ثاقب للحم والعظم، لا تنفع في كبح آلامه حتى، حقن المورفين المخدرة!

وما تلك سوى انطباعات اجتهادية لبعض ما تحتويه باقة قصصية ملحمية، لاوردية، جديرة بأن ترى النور على أبرز واجهات مكتبات وطنها، وأعز رفوف مقتنيات قرائه ومثقفيه في ظل ولادة وزارة للثقافة، شكلت منعطفا لا تخطئه عين متابع لمسيرتنا الثقافية، لا في مجال ما أقيم من ندوات في معارض الكتاب ولا ما سمح بعرضه من مسرحيات ريادية في مهرجانات ثقافية شملت معظم أرجاء البلاد فحسب، وإنما فيما فتحت له الأبواب دون تهيب من ملام وانتقاد، لسرديات بواحة لمبدعين شباب، بل وحتى لبعض من... بنات الرياض!


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة