Culture Magazine Monday  22/10/2007 G Issue 219
فضاءات
الأثنين 11 ,شوال 1428   العدد  219
 

طاش ما طاش والحلقة الأكثر إثارة
قاسم حول

 

 

شارلي شابلن في تأريخ السينما بشخصيته التقليدية المعروفة تمثل شخصا يبدو مغفلا للوهلة الأولى ولكن كل تصرفاته ونتائجها تظهر بأن هذا المغفل هو أكثر ذكاء من الآخر ومن مكونات الأمكنة والحالات الاجتماعية التي يواجهها.

ومنه استقى الكثيرون من ممثلي الكوميديا شخصيات مغفلة مشابهة.

ولأن ملامح شارلي تعبر عن الذكاء الحاد ومن الصعب رسم شخصية المغفل عليها، فقد رسم على وجهة ملامح حيادية من المكياج تقترب نسبيا من ملامح مهرج السيرك ولصق شاربا يشبه شارب هتلر وخرج بشخصية شاشوية غير واقعية لدرجة أن الانسجام معها ينسي وجود شخص اسمه شارلي شابلن في الحياة الإنسانية.

تنوع ممثلو الكوميديا في انتقاء طبيعة الغفلة والمغفل وآخرهم في الغرب شخصية مستر بين.

لم يبتكر الممثلون الكوميديون شخصية تثير الضحك غير شخصية المغفل ومصدرها شارلي العزيز.

الفرق أن مستر بين قد ابتكر الموضوعات الاجتماعية وهو لم يرسم شخصا آخر على وجهه لأنه استفاد من تكوين ملامح وجهه التي تساعده على ابتكار شخصيته النمطية ليزجها في أحداث ظريفة تكشف الخلل الاجتماعي والملابسات التي تثير الدهشة والضحك. وهو ممتع حقا، لكن شابلن بقي أكثر عمقا في فلسفة الضحك التي تتعدى البهجة والضحك من خلال كوميديا الموقف.

الكوميديا العربية والكوميديون العرب أيضا تلبسوا شخصية المغفل.

بعضهم وقع في التهريج والصراخ واتجه البعض الآخر نحو كوميديا الكلمة وكوميديا النكتة وهي معبر محلي يبقى محدودا، فيما كوميديا الموقف والكلمة المتحررة من محليتها تقودان نحو رقي في الكوميديا وفنها الممتع المريح للنفس.

من بين الممثلين العرب لفن الكوميديا يقف ناصر القصبي وعبدالله السدحان في الصف الأول بل وشخصيا أضع مسافة بينهما وبين الآخرين لأنهما متميزان في الأداء وفي التلقائية، وكنت كتبت سابقا عنهما في ثقافية الجزيرة ونصحت أن يخرجا من المحدودية الشرق أوسطية أو العربية إلى ما هو أبعد ونصحتهما بفيلم يكون بداية التحول في شكل الطرح وأداة التعبير وهما مؤهلان لذلك. ومن المفيد التأكيد بأن حلقات طاش ما طاش ترتقي أحيانا في مشاهدها ولكنها تهبط حينا آخر في العادية والسطحية.

حيث من الصعب المحافظة على مستوى الأداء ومستوى الموضوع ومستوى الحدث ومستوى النكتة في محليتها أو شموليتها، فذلك يحتاج إلى تصميم مسبق ودراسة واعية نقدية قبل المباشرة في التنفيذ وهي عبقرية ميزت شارلي شابلن حيث هو الممثل والمخرج والمؤلف وهو أول النقاد لأعماله منذ لحظة الكتابة حتى الأداء وعمليات التوليف والموسيقى.

وهذا ما ينبغي على عائلة طاش ما طاش أن تنحو منحى شارلي في النقد حرصا على مستوى قدرة الممثلين حيث المشهد وقوة بنائه والحلقة وقوة بنائها والحوار وقوة كتابته وعدم السقوط في الحوارية كبديل عن الموقف الملتبس، كلها تقود فكرة طاش ما طاش لكي ترتقي بفن الكوميديا ولا تهبط به.

من جماليات فن الكوميديا هو المبالغة.. والمبالغة غير التهريج والصراخ الذي وقعت فيه الكوميديات العربية.

فن الكريكتير في الصحافة هو شكل من أشكال المبالغة.

والمبالغة في الحدث لا تعني الكذب بل تعني تجسيد الحالة، لأنها بدون هذه المبالغة التي هي التجسيد بصيغة المبالغة، بدونها تسقط الكوميديا في الواقعية التي لا تحقق فن الكوميديا وإنجاز الابتسامة والضحكة للمتلقي.

عندما اختار ثنائي طاش ما طاش ناصر القصبي وعبدالله السدحان، شخصيتي المغفلين، وهي التي باتت سمة الكوميديين الغربيين ومن بعدهم العرب بأشكال متفاوتة لم تحقق في أغلبها الهدف الكوميدي السليم، فإن ثنائي طاش ما طاش نجح في كشف الخلل الاجتماعي وجسد أبعاده في مشاهد تثير السخرية والضحك، ولكن من خلال مراقبتي لما استطعت متابعته من الحلقات تأكد لي الضعف في بناء الحلقات حتى تكاد أن تقترب من المشهدية منها إلى العمل الدرامي المتكامل. فكل مشهد لوحده أحيانا مثير للضحك ولكن غير مترابط وغير محكم البناء في الحلقة الواحدة.

وهذا ما تجاوزته عبقرية شارلي حيث البناء سواء في الأعمال السينمائية القصيرة والمتوسطة الطول أو في الأفلام الطويلة المتألقة في فن الكوميديا مثل الباحث عن الذهب والأزمنة الحديثة.

وفي حين يقودنا ممثلو الكوميديا العرب لكي نضحك منهم وعليهم فإن شابلن وهو مبتكر شخصية المغفل ومؤسس شكل جديد للكوميديا لم نضحك عليه يوما بل كان يضحكنا من الموقف الملتبس ومن الخلل الإنساني والاجتماعي، وهو وإن بدا مغفلا ولكنه كان يثبت أن المجتمع هو المغفل من خلال الخلل الذي يسري في المجتمع الإنساني بمعنى غياب الوعي في ذلك المجتمع بدون أن تكون في أعماله إيديولوجيا، فهو لم يظهر المضامين صارخة بل كانت تتسلل إلينا بسلاسة متناهية ومن خلال الضحكة لدرجة أن أفلامه تعاد ونحن نعرف الحدث وما ينتج عنه ولكننا نضحك من جديد بسب قوة الأداء وعظمة الإخراج والتوليف وتكريس كل مفردات لغة السينما لصالح تلك الكوميديا.

ثنائي طاش ما طاش يقعان أحيانا في مطب أن نضحك على شخصية المغفلين فيما غفلتهما يجب أن تكشف ما هو مضحك.

إذا ما جعلانا نضحك منهما فإنهما يسقطان في التهريج.

الغفلة التي اختارها الثنائي هي يقظة في الحياة وغفلة على الشاشة.

ولقد قرأت في مواقع الإنترنت ما نشر في صحيفة الجزيرة عن سرقة قام بها المراقب المالي لشركة الهدف التي يملكانها وينتجان من خلالها مسلسل طاش ما طاش، وكيف تمكن المراقب المالي من سرقة أموالهما وتحويلها للقاهرة وشراء الشقق والبيوت واستغل سفرهما إلى عمان ليفر إلى القاهرة وليكتشفا بعد حين حجم السرقة التي طالت حسابات شركتهما الهدف وأموالهما الشخصية وتزوير توقيعيهما والحصول على بطاقات ائتمان مصرفية وسحب أموالهما من المصارف. وبعد هروبه اكتشفا طريقة السرقة ووثائق عنها وجدت في سيارة الجاني.

وكنت أظن عند قراءة الخبر أنها حلقة جديدة من مسلسل طاش ما طاش! هذا الخبر أثار دهشتي لممثلين يملكان من يقظة الانتباه للمجتمع ما حقق حلقات كثيرة تكشف الخلل فيه وتجسده وتثير الضحك عليه وعلى ملابساته وتفاصيل الأحداث في المجتمع فيما أقرب الأمكنة إليهما في الحياة هو مكتبهما والشركة المنتجة لمسلسل طاش ما طاش التي غاب عنهما كشف الخلل فيه ما يؤدي إلى سرقة المال الذي ينتج تلك الأعمال المثيرة للضحك والسخرية من المفارقات الحياتية. ليس هذا الحدث هو موضوع لحلقة غرائبية يمكن إنتاجها في مسلسل طاش ما طاش فحسب، ولكن دلالة الحدث الدرامية تعني أن اللذين يلعبان على الشاشة دور المغفلين بوعي الثقافة المرئية يسقطان في الغفلة على يد رجل رقمي الثقافة حسابي المزاج فيوقعهما في شباك اللعبة التي يلعبانها على الشاشة.

دلالة هذه الحادثة هو أن يكون الثنائي ناصر القصبي وعبدالله السدحان في اليقظة الكاملة عند كتابة حلقات المسلسل عند أدائها، عند بنائها، عند حوارها، وهذه اليقظة هي التي تقود إلى طاش ما طاش، وعندها سوف لا تثير الحلقات إعجاب العامة فقط، ولكنها تثير أيضا إعجاب النخبة (على حد سواء) وبذلك يرتقي المسلسل إلى المستوى القياسي لفن الكوميديا ولا يهبط في السطحية والعجالة.

غياب اليقظة الواعية (اللحظوية) هي واحدة من الأسباب في عدم ارتقاء مستوى حلقات طاش ما طاش إلى مستوى القيمة الفنية للكوميديا الراقية التي ترسم الابتسامة الحلوة وحتى الابتسامة المرة على وجوه المشاهدين وترتقي بحواسهم النقدية والمعرفية إلى مستوى الشروط الموضوعية لقيم الجمال.

وهي ذاتها التي فوتت عليهما مراقبة حسابات الشركة ونجاح الرجل الرقمي من التفوق على المثقف والمصلح الاجتماعي.

الحالتان مترابطتان استغفالهما للحدث على الشاشة واستغفال المحاسب لهما في الشركة.

يمكن إنتاج حلقة من طاش ما طاش عن علاقة فنانين اثنين بنفس شخصية المغفلين بمحاسب الشركة التي نهب أموالهما وهما يمثلان حلقة في عمان من طاش ما طاش.

لو أحسنت كتابتها يمكن أن تكون الحلقة الأكثر إثارة في المسلسل الكوميدي طاش ما طاش!؟ لكنني سأبقى في دعوتي لهما كما في السابق في الخروج من المحلية وارتقاء سلم الفيلم السينمائي الكوميدي بلغة تعبير عالية وهما مؤهلان لمثل هذه الخطوة.

وبدونها سوف يبقيان في حلقات الشرق الأوسط التلفزيونية وسوف يستنفذان قدرتيهما ويستنفذان موضوعات النقد الاجتماعي وقد بدت ملامح هذا الاستنفاذ واضحة وهي حالة لا نريدها لمبدعين في فن الكوميديا العربية.

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7591» ثم أرسلها إلى الكود 82244

-هولندا sununu@wanadoo.nl


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة