Culture Magazine Monday  22/10/2007 G Issue 219
سرد
الأثنين 11 ,شوال 1428   العدد  219
 
قصص قصيرة جدا
خالد أحمد اليوسف

 

 

الطهر

جاءت وقد تورمت حدقتاها ووجنتاها، وتلون جسدها بلون يقترب من الاخضرار، ولأنفاسها صوت غريب، جاءت إليهما بأسمال الألم، فكانت هي بداية حياتها، وحين الرضاعة لم تقبل أمها إلا بعد خوف ووجل، عند الأسبوع الثاني برزت ملامح الأطفال الآخرين، وفي الأسبوع الثالث تشكلت ملامحها الخاصة، وعند الشهر الأول تأوهت وتذمرت وبدا بكاؤها غريباً، أبواها في شرود دائم ويشوب وجهيهما حزن وأسئلة، لم يستطيعا جلب الفرح لمجيئها بعد الشهر الثاني، فقد انتابهما إشفاق على وضعها المثير، فتبددت البهجة مع هرمية الأسئلة، عند طبيب الأطفال كانت التطعيمات جاهزة، وكان حديثه العفوي إجابة لكل الأسئلة...

- الحمد لله الحرارة طبيعية والوزن كذلك، فقط آمل منكما الانتباه لها وعليها!!

* من ماذا؟؟ هل.. هل لديها شيء مخيف يا دكتور؟؟

- لا.. لا تقلقا.. لديها ثقب صغير في القلب، وسيلتئم بحول الله لأنه صغير جداً!، وهو طبيعي لمثل حالتها!!

* ماذا تقول يا دكتور؟؟ ثقب.. وطبيعي.. وحالتها.. ما هذه الألغاز وهذه الشبكة المحزنة؟؟ خبرنا يا دكتور.. هل ابنتنا تشتكي من وضع... أو لديها شيء غير طبيعي؟؟

- حقيقة.. كل الدلائل توضح أنها مصابة بمتلازمة....

لم يستطع إكمال كلمته من صوت النحيب الذي ارتفعت حدته، وكانا في وضع يرثى له، كان البكاء سيداً لأشهر مضت، وأشهر جاءت بولادة امتد حزنها نقيا كالحزن الأول.

أطراف..!

يُمسك بها بشدة وحرص، عيناه مازالتا في شرودهما القديم، لم يطمئن لمكان جلوسه، مما زاده خوفاً عليها، أقبل عليه الطبيب مستفهماً....

* هل أوراقك كاملة؟

قدمها له بصمت، استلمها وتفحصها ورقة ورقة بدقة، مرت هنيهة ثم أشار إلى غرفة قريبة وطلب منه الدخول، أجلسه على كرسي يتحول إلى سرير، طلب منه الاسترخاء بهدوء، حاول الطبيب طمأنته كي يأخذها منه ويبدأ بتركيبها في مكانها، ربت على كتفه، مد يده نحوها وأمسك بها، تمعنها بعد أن قلبها يمنة ويسرة...

* أعتقد أنها عالية التكلفة والتقنية، لكن ستخدمك كثيراً!!

لم يُجبه فمازالت عيناه في شرودهما القديم، انشغل الطبيب في تجهيزها، وانهمكت ذاكرته تحفر بعيداً مع عينيه الشاردتين، استعان الطبيب بعد اتصالات متواصلة بأطباء آخرين، اجتمعوا حوله للمرة الخامسة، استغرق كل واحد منهم بتخصصه، كانت الدهشة متشبثة به، وحالة الانتظار مرتسمة على ملامحه، التفتوا جميعاً إليه، جاءه الصوت..

* صراحة وبعد عدة محاولات وتجارب، وجدنا أن ذراعك هذه لن تتطابق معك، وتحتاج إلى إعادة تأهيل، كي يتطابق برامجها مع مقدرتك، نأمل أن تثق بنفسك قبل ذلك!!

امتدت يده الأخرى إلى كتفه القاصرة، وراحت تمسح عليها ببكاء يتجدد دوماً، فلم يقطع شرود بصره، حيث كان متوقفاً عند حادث الطفولة وقد انتزع ذراعه كاملة!!

الفقد..!!

اقترب منها فخالطته رائحتها المحببة إليه، انحنى مقبلاً جبينها ووسط مفرقها، امسك كفيها واحتضنهما، لثمهما مغمض العينين بعمق شديد، وضع رأسه على وسطها، منغمساً في أحلام طفولته المشردة، لم يستطع حين ذاك الاستمتاع بها، بحنانها الدافئ، وعطفها الفطري، وحضنها الواسع، ابتعدت عنه مجبرة، وهو بعيد عنها دون علم أو حيلة، لم يكن انفصالها عن والده وقت إدراكه، فتخيل كل حنان أو ربت على كتفه أو مسح على شعره من يديها، بحث عنها في كل مكان، فيما بين اليقظة والسبات، ها هي تعوضه وتمنحه شيئاً مما فات عليه، يقترب منها أكثر، يزيد في تقبيلها وشم رائحتها، هاهو يستمتع بالنوم على رجليها، ينهض فجأة وكأن صوتاً أيقظه، يتلفت باحثاً عنها لم يجد إلا وسادته بين يديه!!

اصطفاء

كنت في يقين معرفتي أن كل النساء نساء!؟، وأي امرأة لها نكهة الأنثى!!؟، كنت أرى الوشاح الأسود عاشقاً كعشقي لهن، حينما رأيتها خيل لي أنها مثلهن، لكن إدراكي لم يرضَ بها، مثلما رضيت عيني لمنظارهن في كل الأزقة والشوارع، لهذا لم تستوقفني كثيراً، أحسست بمرارتها، وجراح أعقابها، وانكسار مفاصلها، وقد نحلت من أذرع الأرض طولاً وعرضاً، هاهي تبحث عن مهابط الطيور الضائعة، ومخابئ الحشرات الجائعة، وتشرد القطط المتوحشة، وزوايا البيوت المرفهة، تدفع عربة أطفال رثة قد مُلئت بحصاد جولتها اليومية، بعد أن نبشت بيديها ما تستطيع حمله من الحاوية، كعلب المياه الغازية وكراتين الورق القموى ونوادر ما يُرمى خارج المساكن، لم أشعر بأنوثتها رغم كدحها المفرط، لم أشعر بإغرائها وقد تغضن وجهها ليزداد سواده سواداً موحشاً، لم آبه للقائها اليومي حول بيتي، فقد سُحق يقيني بزوال النكهة والخصوصية، وها أنذا أحيط بمعرفة أخرى فقد رأيتها تنتحي جانباً لترضع جنينها، والأخرى تفرش كرتونا لتصلي عليه بعد أن انتهت من الوضوء قبل لحظات، وأدرك أنها أنثى مختلفة!!؟.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة