الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 26th September,2005 العدد : 124

الأثنين 22 ,شعبان 1426

التناص (1-2)
وضحاء بنت سعيد آل زعير
مفهوم السرقات الشعرية
تعرّف السرقة في اللغة بأنها اسم من: (سرق منه الشيء يسرق سَرَقاً، واسترقه: جاء مستتراً إلى حرز، فأخذ مالا لغيره)(1).
وسرقه: (أخذ ماله خفية)(2).
وقد اُستعير المعنى الاصطلاحي من المعنى اللغوي للكلمة؛ ليدلّ على الفعل ذاته، وهو (السرقة)، وإن كان من اختلاف فهو في ماهية ونوع المسروق فقط.
فالسرق في الاصطلاح: (الأخذ من كلام الغير، وهو أخذ بعض المعنى أو بعض اللفظ سواءً أكان أخذ اللفظ بأسره والمعنى بأسره)(3).
وقد قال طرفة بن العبد:
و لا أغير على الأشعار أسرقها
غنيتُ عنها وشرّ الناس من سرقا
وقد طوّر النقاد المتقدمون، ومن بعدَهم من المتأخرين في المصطلح، وأدخلوا عليه ألفاظا ومصطلحات أخرى تحت بابه.
فابن قتيبة (276ه) مثلاً نأى عن ذكر لفظ (السرقات) عن الإسلاميين، مستبدلاً إياها ب (الأخذ)، و (السلخ)، و (الاتباع).
وقبله ابن سلاّم الجمحيّ (232هـ)، الذي استخدم لفظي (الاجتلاب)، و(الإغارة).
أما الجاحظ (255هـ) فقد راوح بين (السرقة)، و (الأخذ).
وتفرّد الصولي (335هـ) بلفظي (النسخ)، و (الإلمام).
ولكن هذه الألفاظ أصبحت شبه منقرضة في العصر الحديث، وحلّت مكانها ألفاظ فيها من الإنصاف الكثير كالتناص، والاقتراض، وسأعرض لها لاحقاً.
نشأة السرقات
وُجدت هذه القضية منذ عصر اليونان، فقد اعترف بعض شعرائهم بتقليدهم لسابقيهم، واتُهم بعضهم بأنهم قد سرقوا ممن كان قبلهم(4).
وإذا أردت التحدث عن وجودها لدى العرب، فإنها كانت حاضرة منذ العصر الجاهلي، واتُهم فيها شعراء لهم ثقلهم، كزهير يقال: إنه سرق من قراد بن حنش من غطفان(5).
وأستغرب أن يُوصم شاعر كزهير بمثل ذلك، لسببين:
أولهما أنه قد عُرف عنه وإن كان جاهلياً التزامه وخلقه الورع، وكذلك أن شاعراً من عبيد الشعر، يجلس الحول ينمّق في القصيدة قبل إخراجها، لن يقع في هذا المطبّ الوعر عليه كشاعر مدنّساً اسمه بأبيات، فأعتقد أن ما نُسب إليه قد يكون من تزيّد الرواة أو اختلافهم.
وأبيات امرئ القيس الكثيرة التي أُغير عليها كُثُر، كطرفة بن العبد في البيت المشهور(6):
وقوفاً بها صحبي عليّ مطيّهم
يقولون لا تهلك أسى وتجلّد
فقد أخذه من امرئ القيس من بيته:
وقوفاً بها صحبي عليّ مطيّهم
يقولون لا تهلك أسى وتجمّل
وإن كان للغذامي رأي آخر، يجعل بيت طرفة منحولا عليه، بدليل أجواء القصيدة(7)
وكانت السرقات كثيرة، والاتهامات تتقاذف على الشعراء، وإن كنت أرى أن قدم عهدنا بهم، وأن الرواة هم الناقلون لا التدوين.. سبب رئيس لكثرتها، وشيوعها.
وعندما نذهب للعصر الإسلامي، نجد هذه القضية قد شاعت أكثر، ولم يسلم منها إلا قلّة، فاتهم حسان بن ثابت، والحطيئة، النابغة الجعدي وكعب بن زهير(8).
أما في العصر الأموي فقد اشتدت نار السرقات، وتراشقت سهامها، بسبب العصبيات القبلية، والخصومات النقدية، إضافة إلى تفشي النزاعات، والأحزاب السياسية، إلا أن بعض الروايات تؤكد هذه السرقة في وضح النهار، كما كان يقوم به الفرزدق مهددا من لا ينصاع له بالاختيار بين بيته الشعري، أم عرضه، فقد فعلها مع ذي الرمة، وجميل بثينة، والشمردل، وغيرهم(9).
كذلك سرقات جميل بثينة، وكثيّر عزة، والأخطل، والكُميت(10)، والقائمة تطول في ذكرهم، ولكن المهم في هذا العصر أن السرقات اختلفت بعد أن كانت في الجاهلي يغلب عليها اللفظ والمعنى، فإنها هنا تؤخذ المعاني، وتُخفى لتظهر بشكل جديد، إضافة لما ذكرت عن الإغارات الواضحة للفرزدق.
وفي العصر العباسي ظهرت الكتب المتخصصة في السرقات، وتأججت الخصومات بين اتجاه القديم والحديث، والاختلاف نحو شاعر معين، لتذكي كلها قضية السرقات، فلم يسلم شاعر مهما علا شأنه من هذا الاتهام، كأبي نواس الذي أُلِّف كتاب في سرقاته(11)، وأبي العتاهية، والمتنبي أيضاً وما ألِّف حوله من خصوم وأنصار، وكذلك كتاب الآمدي الذي خصص جزءاً منه يتتبع فيه سرقات الشاعرين، أبو تمام والبحتري، وأن الأخير قد سرق من الأول، مع أن الأول قد سرق ممن قبله(12).
واستمرّت الحملات الشعواء على بعض الشعراء من النقاد، ولا أنكر إنصاف بعضهم، وإن كان الأغلب قد فهموا السرقات بغير ما توصل إليها نقدنا الحديث.
آراء النقاد فيها
كان لاهتمام العرب بالشعر، من حفظ وتدوين، أثر في تتبعهم للسرقات، وتوهمهم أحياناً بوجودها عند شاعر وهو منها براء، وما هذا إلا نوع من ظاهرة التناص (تداخل النصوص) التي سأعرض لها خلال هذا البحث، وسأشير لبعض نقادنا العرب المتقدمين الذين ألمحوا إلى ذلك، وإن لم يذكروه صراحة:
1 محمد بن سلاّم الجمحيّ (231هـ)(13):
يعدّ من أوائل عارضي السرقات في مؤلفاتهم، وإن لم يدرسها دراسة منهجية؛ ولكني ذكرته هنا مع عدم العلم: هل هو أول من عرض لها؟ ربما لا، ولكن أسبقية وصول كتابه، وفقدان الكتب التي سبقته ككتاب ابن كُناسة (207هـ): سرقات الكُميت من القرآن وغيره؛ جعلته يحتلّ المركز الأول في حديث السرقات التي ربما سبقه أحدهم فيها.
تحدّث ابن سلاّم عن السرقة، ووجودها في العصر الجاهلي، وكان حديثه عاماً بلا دراسة أو استقصاء، وإنما يعرض سريعاً لبيت مسروق يتبع أحد الشعراء الذين في طبقاته.
وإن كان ابن سلاّم قد تحدث عن اختلاف الرواية، وما سببته من ظنّ في السرقات.
كما تحدث عن فكرة المعنى المشترك بلا تخصيص وتفصيل ونقد؛ إلا أننا لا ننكر استفادة النقّاد اللاحقين له؛ وإن كانت دراستهم مستفيضة، وبروح علمية أكثر مما كانت عنده.
2 الجاحظ (255هـ) (14): أما الجاحظ فقد قال عبارته المشهورة عن المعاني المشتركة: (إن المعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي، والقروي والبدوي، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخيّر اللفظ).
ولكن اهتمام الجاحظ باللفظ كما نعلم جعله لا يعطي سرقات المعاني بالاً كما هو سرقات الألفاظ، إضافة إلى اهتمامه الكبير بقضية اللفظ والمعنى واستحواذها عليه(15).
3 أبو بكر الصولي (335هـ):(16) لم يكن كتابه في النقد؛ وإنما أدبياً عن (أخبار أبي تمّام)؛ ولكن ملاحظاته النقدية عن السرقات، المتناثرة في كتابه، أدرجته مع النقاد أصحاب المناهج وكتب النقد، فهو أول من فرّق بين سرقة اللفظ، وسرقة المعنى، وسرقة اللفظ والمعنى معاً.
كما كان أول من استخدم لفظي (النسخ)، و (الإلمام).
4 ابن طباطبا العلوي (322ه): لم يكثر الحديث عن السرقات، وإن كان قد ذكر أنواعاً منها دون الإشارة إلى أسمائها ك(النقل)، و(القلب)، وذكر عليها الشواهد الشعرية(17).
كما ذكر أن المعاني المسبوق إليها لا تعد مسروقة؛ إذا كان المحدَث أخذها وأحسن كسوتها وديباجتها، فله فضل ذلك(18).
وهو ما يقصد به (الأخذ المحمود).
إلا أنه في نفس الوقت لا يبيح أو يتساهل في (الأخذ المذموم)، الذي لا يضيف للمعاني، بل يخرجها في أوزان مخالفة لما كانت عليه، محاولاً إسباغ ألفاظ جديدة دون سابقتها؛ ليبعد عنه تهمة السرقة.
5 أبو القاسم الآمدي (370هـ): يقرر الآمدي أن السرق لا يكون إلا في المعاني التي يبتكرها الأول، وتلحق به(19).
إلا أنه جعل سرقات أبي تمام كثيرة، وهذا ما حاد عنه في بداية حديثه عن العدل في بداية الكتاب، وإن كان ألغى بعض سرقاته التي وصمها به ابن أبي طاهر.
ولقد أجحف أبو القاسم حينما جعل من أسباب تأكده أن أبا تمام سرق المعاني، هو وجود مختارات شعرية له، واتصاله المتين بالشعر القديم؛ وهذا مايؤكد لنا قضية (تداخل النصوص) بعيدا عن اتهام السرقة(20).
6 القاضي علي الجرجاني (392هـ): يحترز عن الحكم في السرقات، ويعتذر للشعراء، فهم يجتهدون للبحث عن المبتدع الجديد، وبعدها يجدونه عند سابقيهم في قصائدهم، ويدخله القاضي في الأخذ غير المتعمّد الذي يعدّ هو أول من تنبّه له(21).
كذلك كان للقاضي الجرجاني نظرة متعمّقة في هذه القضية جعلته يخلص لإبعاد التهم عن الشعراء، مساهماً بطريقة غير مباشرة في تأكيد نظرية التناص لا السرقات(22).


wadha88@hotmail.com


*****
هوامش
(1) القاموس المحيط للفيروز آبادي مؤسسة الرسالة بيروت ط5 1416هـ: 1153 .
(2) المعجم الوسيط: 427 .
(3) معجم البلاغة العربية، د. بدوي طبانة دار العلوم الرياض ط 2 1402هـ: 1340، وانظر: المعجم المفصّل في اللغة والأدب، د. إميل يعقوب ود. ميشال عاصي/ دار العلم للملايين بيروت 1987م: 2714، والسرقات الشعرية بين الآمدي والجرجاني د. عبداللطيف الحريري ط1 1416هـ: 1516 .
(4) انظر: مشكلة السرقات في النقد العربي، د. محمد مصطفى هدّارة/ المكتب الإسلامي ط 3 1401هـ: 1314 .
(5) انظر: طبقات فحول الشعراء لمحمد بن سلاّم الجمحي/ ت: محمود شاكر مطبعة المدني جدة د. ط د. ت: 2 773 .
(6) انظر: الشعر والشعراء لابن قتيبة، ت: أحمد شاكر/ دار الحديث القاهرة ط 2 1423هـ: 1129 .
(7) انظر: ثقافة الأسئلة، د. عبدالله الغذّامي/ دار سعاد الصباح الكويت ط2 1993م: 125 .
(8) انظر: الشعر والشعراء: 1 130131 .
(9) انظر: السابق: 1434 516 517 .
(10) انظر: السابق.
(11) سرقات أبي نواس لمهلهل بن يموت.
(12) الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري لأبي القاسم الآمدي، ت: أحمد صقر/ دار المعارف القاهرة ط 4 د. ت، والوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي الجرجاني ت: محمد أبو الفضل، وعلي البجاوي/ دار القلم: بيروت د. ط د.ت.
(13) انظر طبقات فحول الشعراء: 1 58 و2733 .
(14) انظر معجم الأدباء لياقوت الحموي، ت: د. إحسان عباس/ دار الغرب الإسلامي ط1 1993م: 2101 .
(15) الحيوان للجاحظ، ت: عبدالسلام هارون مكتبة الخانجي القاهرة: 2 131 132 .
(16) انظر: معجم الأدباء: 2677 2678 .
(17) انظر: عيار الشعر لابن طباطبا العلوي ت: محمد زغلول سلام منشأة المعارف الاسكندرية د. ط د.ت: (112118).
(18) انظر: السابق: 112 .
(19) انظر: الموازنة بين الطائيين للآمدي: 5556، ومعالجة النص في كتب الموازانات التراثية، د. سعد أبو الرضا/ منشأة المعارف الاسكندرية د. ط د.ت: 114 وعمود الشعر العربي في موازنة الآمدي، د. علي صبح مكتبة الكليات الأزهرية القاهرة د.ط 1406هـ: 8788 .
(20) انظر: معالجة النص: 109، ومشكلة السرقات في النقد العربي: 145.
(21) انظر: الوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي الجرجاني،: 214، ومعالجة النص: 154160، ومشكلة السرقات في النقد العربي: 150152 .
(22) انظر: معالجة النص: 154 .
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved