الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 26th September,2005 العدد : 124

الأثنين 22 ,شعبان 1426

الصورة والصورة المزيفة
قاسم حول*

كلما ظهرت على شاشات السينما أو التلفزيون تلك المشاهد المروعة عن قتل النازيين لليهود، وبشكل خاص نمط خاص من المشاهد، برزت تساؤلات واتهامات عن حقيقة تلك معاد تسجيلها؛ بمعنى أنها روائية نفذت بصيغة تسجيلية، وإذا كانت كذلك فمن يقف وراءها؟!
لعل أكثر اللقطات إثارة هي تلك التي تظهر بضعة جنود ورجال من الغستابو يسحبون عدداً من الناس يفترض أن يكونوا يهوداً وبينهم شاب يوحي وجهه بالطفولة والبراءة والجميع يمشون في خندق فيه امتداد ثم ينحني الخندق شمالاً وقبل أن يدلفوا نحو المنحنى نسمع إطلاقات نار دون أن نرى الرامي، فيتهاوى بعدها الشاب داخل الخندق. اللقطة مصورة بفيلم سينما قياس 16 مليمتراً وبالأسود والأبيض والكاميرا من خلال حركتها توضح أنها كانت محمولة على الكتف والمصور يمشي، بمعنى أن الكاميرا غير مثبتة على حامل. هذه اللقطة مصورة بشكل يوضح (أو ربما يوحي) بأن المصور كان موجوداً بطريق الصدفة. كانت هذه اللقطة مثار نقاش دائم لحين نشرت معلومات في الفترة الأخيرة في بعض الصحف الألمانية، سرعان ما تم التعتيم عليها وإنهاؤها من وسائل الإعلام، بصدد علاقة مخرج أفلام الرعب (ألفريد هتشكوك) البريطاني الأصل الأمريكي الجنسية مع هذه المشاهد، وهو الذي يقف وراء تصوير هذه اللقطة وعدد من اللقطات المتشابهة.
إن أول ما أثار الشكوك في فترة النازية الألمانية بصدد تلك اللقطات أن وسائل الإعلام المصورة ووكالات الأنباء والمراسلين لم يكونوا بتلك السعة والانتشار حتى يمكن أن يوجد مصور أو مراسل في يوميات الأحداث البسيطة بحيث يمكن توثيق مثل تلك المشاهد في خندق ناء يقتاد الجنود الألمان بداخله بضعة يهود. قد يوجد المصورون في مواقع الأحداث الساخنة كالمعارك والمواجهات، وأغلبهم مصورون عسكريون، ولكن في مثل ذلك الخندق أو خلال مداهمات لبيت من البيوت في أطراف المدن الألمانية يتعذر وجود المصورين في مثل تلك المواقع وفي تلك الحقبة من تأريخ الصورة المتحركة والأعداد المحدودة لوكالات الأنباء.
يعتقد المراقبون الإعلاميون أن الكثير من هذه المشاهد قد أعيد تصويرها بطريقة تقترب من الواقعية والتسجيلية، ولعل ألفريد هتشكوك صاحب سينما الخوف هو أكثر المخرجين قدرة على إعادة توثيق الواقع وتقديمه على أساس تسجيلي وليس روائياً.
فإذا افترضنا أن هذه اللقطات وثائقية وليست روائية أعيد تصويرها بطريقة وثائقية وأن أعداء النازية هم الذين وثقوها لغرض إدانة وفضح حقيقة الدكتاتورية النازية فإن ذلك كان ضرباً من المستحيل لعدم قدرة أعداء النازية على التوغل نحو الخنادق النائية والبيوت لتصوير مثل تلك المشاهد وسط سطوة النازية وقسوتها وتلاحم الشعب الألماني مع تيار النازية والعنصرية في فترة نهوض النازية.
وإذا كانت النازية نفسها تريد توثيق مثل هذه الأحداث، فما الرغبة لتوثيق مثل هذه الحقائق من قبل (غوبلز) وزير إعلام هتلر، ولأي هدف؟
يقودنا هذا التساؤل إلى الوثائق المصورة التي عثر عليها في أقبية الأمن العراقية بعد سقوط الدكتاتور العراقي صدام حسين، ومنها المشهد الذي لم تعرف مثيله النازية والمتمثل في تلغيم شابين وتفجيرهما داخل حفرة.
توثيق مثل هذه الأحداث كان رغبة من الدكتاتور العراقي في مشاهدة مقترحاته الأمنية وقوته وسطوته على مقدرات الناس ونشوته في تصفية خصومه في جانب، وفي جانب آخر فإنه يختار المشاهد التي يرغب في تسريبها للمواطنين لتعميم حالة الرعب ومشاهدة المصير الذي يعرف المواطن أنه يؤول إليه في حال مناوأته النظام حيث كان الدكتاتور العراقي يسرب مثل هذه الأشرطة للناس. هي حالة مرضية ذاتية في أحد جوانبها.
هذا الرغبة المرضية للدكتاتور العراقي، هل كان الدكتاتور الألماني يعيشها هو الآخر؟ وهل الدكتاتورية الألمانية أكثر تحضراً من الدكتاتوريات في العالم الثالث بحيث تترفع دكتاتورية الغرب عن مشاهدة مثل هذه اللقطات المرعبة التي تصل حد القرف والاشمئزاز؛ على اعتبار أن أدولف هتلر كان يشاهد الباليه ويستمتع بالسيمفونيات ويطلب من مخترعيه وأصحاب العقول صناعة سيارة الشعب الصغيرة والعملية التي لا تؤدي إلى تلويث البيئة الألمانية (الفولكس واغن) ولكنه في ذات الوقت يقبل بدمار العالم وسيادة العنصر الآري على العنصر غير الآري على الأرض باعتباره الأكثر تفوقاً من ناحية الذكاء وفيزيائية الجمجمة الآرية؟
هناك يسود الاعتقاد أن تلك المشاهد التي عثر عليها بعد سقوط النازية في ألمانيا كانت مصورة بعد سقوطها وهي ليست مشاهد ذات طابع وثائقي تسجيلي قبل سقوطها. والاعتقاد الذي نشر بعلاقة ألفريد هتشكوك بفبركة المشاهد بطريقة توحي بالوثائقية هو اعتقاد وارد، ولا سيما أن الشاب الذي يطلق عليه النار في الخندق قد التفت واللقطة كانت من الخلف، نحو الجندي الذي يدفع به للمشي في الخندق والالتفاتة كانت تجاه الكاميرا حتى تلتقط طبيعة وجهه ولحظة سقوطه بعد أن يطلق عليه النار. وبغض النظر عما قيل عن وجود نسبة من المبالغة في اضطهاد النازية وأن عدداً كبيراً من الجثث المكدسة فوق بعضها في اللقطة الأكثر شهرة في مسيرة الوثائق النازية هي للغجر وليست لليهود، إلا أن ثمة حيفاً واضطهاداً قد أوقعتهما النازية على العنصر اليهودي، وأن من حق اليهود كجالية ومن ثم كدولة أن تعيد توثيق هذه الحقائق بطريقة روائية متفق عليها، إلا أن الذي حصل هو المساومة على تزييف الحقيقة وتقديمها كحقيقة موضوعية موثقة معتمدين على نسبة وعي التلقي المتدنية لدى عامة الناس في استقبال الصورة مستثنين فئة الوعي من المعادلة وقدرتهم على تجاوزها بسبب تملكهم وسائل الإعلام والإعلاميين وقدرتهم على التعتيم على أية حقيقة غير مرغوب بكشفها فيما يتعلق بالوجود اليهودي أو التعتيم على أي خبر غير مرغوب بتسريبه ودفعه نحو ملف النسيان كما حصل مع خبر ألفريد هتشكوك وعلاقته بفبركة المشاهد الروائية على أنها مشاهد وثائقية، سواء في استعمال نوع الفيلم أو في ظهور بعض التشويه Scrash على طبقة الفيلم السليولودية إيحاء بحفظ الشريط بطريقة غير نظامية في أقبية أو بيوت أو صناديق، أو بحركة الكاميرا التي توحي بأن حاملها كان خائفاً وغير متماسك الإرادة في تصوير المشهد.
تدني مستوى الوعي لدى المتلقي بشكل عام في جانب، وقوة تأثير الميديا الإسرائيلية عبر مديات زمنية في جانب آخر لعبا دوراً في توفير القناعة بوثائقية تلك المشاهد التي يمكن عدم الانتباه إليها وسط ذلك الكم من وثائق النازية ومنها اضطهادها لليهود.
اليوم وبعد أن تطور فن الصورة وتطورت تقنيتها أصبح تزييف الصورة شأناً سهلاً ينفذه طالب صغير متخرج في دورة كومبيوتر في عملية استخدام المؤثرات البصرية، ولم يعد العالم بحاجة إلى مخرج (فطحل) مثل ألفريد هتشكوك ليقوم بتزييف بضع لقطات ومشاهد تتعلق باضطهاد النازية لليهود، فالحقائق الكبيرة والكاملة من ألفها إلى يائها أصبحت في ماكينة التزييف وأصبح قلب الألوان ممكناً، ليس على مستوى التقنية بل على مستوى القناعة بأن يصبح الأسود أبيض، وبالعكس فتزييف الصورة اليوم لم يعد استثناء وتحت وطأة الاتهام، بل أصبح تحصيل الحاصل كما يقال في خضم تزييف الحقائق الموضوعية كاملة. وتلعب القنوات الفضائية اليوم دوراً أساسياً في قلب الحقائق الموضوعية رأساً على عقب، وهي وإن بدت بريئة وذات سمة استقلالية إلا أنها بهذا الشكل أو ذاك ليست بعيدة عن ألفريد هتشكوك ومسببات دعوته لتصوير تلك المشاهد ومن ثم القدرة على تعميمها ضمن عشرات الآلاف من الأشرطة الوثائقية التي تساعد بالضرورة على القناعة في اللقطات المفبركة ذات الطابع الروائي التمثيلي المتقن بحركة الكاميرا الروائية المتقنة ضمن الهدف المرسوم لها.
لا يثني مؤسسات تزييف الصورة، سواء المحلية منها أو العالمية، سوى الوعي فعندما تتسم حياة الناس بالوعي أولاً وبالقيمة الجمالية للتلقي ثانياً فإن التزييف سوف يسقط بالضرورة وحده ويصبح التعامل مع الحقيقة الموضوعية من منطلق هذا الوعي وهذه القيمة الجمالية الفنية ولا تستقبل الصورة كحقيقة مسلم بها.
إن العملية الإعلامية المزيفة للواقع في منطقة الشرق الأوسط تصاحبها قيم جمالية متدنية تتمثل في شكل العمل الفني وأداء البرامج وتصويرها والموسيقى والمؤثرات المصاحبة لها، هذه القيم الجمالية المتدنية تنعكس على المتلقي سلباً، وهذا لا يقل خطورة عن عملية التزييف للحقائق الموضوعية، لأن وجود جمهور متدني الحس الجمالي هو مشروع لاستقبال تزييف الحقائق، وهذا هو الأكثر خطورة.
تدني وعي التلقي وتدني القيم الجمالية هما أساس لمشروع غير حضاري قائم على تزييف الحقائق في منطقة الشرق الأوسط وفي العالم على حد سواء.


* سينمائي عراقي مقيم في هولندا
sununu@wanadoo.nl

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved