الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 26th September,2005 العدد : 124

الأثنين 22 ,شعبان 1426

مساقات
لسانُ حِمْيَر ولساننا!
د. عبد الله الفَيْفي

وذكرتُ في مساق مضى قول الشيخ الكريم عبدالله بن إدريس: (وهذه اللهجات المحلية في الجنوب تتكئ على موروث لغوي قديم هو اللغة الحميرية، التي نطق الرسول صلى الله عليه وسلم ببعض مفرداتها في قوله (ليس من امْبر امْصيام في امْسفر)، أي ليس من البر الصيام في السفر).
وأرى أن قول الشيخ يتكئ على مقولة (أبي عمرو بن العلاء): (ما لسان حِمَير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيّتُهم بعربيّتنا)، التي ساقها (الجُمَحي، محمّد بن سلاّم (231هـ)، (1982)، طبقات الشعراء، تح. جوزف هل (بيروت: دار الكُتُب العلمية)، 29).
ولقد اتّكأ القدماء على هذا القول في إهمال لهجات جنوب الجزيرة العربية، على أساس أنها: حِمْيَرِيّة، مختلفة عن عربيّة الشمال، التي نزل بها القرآن، أو في أحسن الأحوال هي عربيّة خاصّة؛ ليست بعربيّتنا الفُصحى.
حتى إن (ابن السكّيت (244هـ)، (1970)، إصلاح المنطق، تح. أحمد محمّد شاكر وعبدالسلام محمّد هارون (القاهرة: دار المعارف بمصر)، 162) يورد هذه الحكاية: قال الأصمعي: دَخَلَ رجلٌ من العرب على مَلِك من ملوك حِمْيَر، فقال له: ثِبْ وثِبْ بالحميريّة: اقْعد فوَثَبَ الرجل فتكسّر.
فقال الحميري: ليس عندنا عربيت، من دخل ظفار حمّر. قال الأصمعي: حمّر، تكلّم بكلام حمير3. ونَسَبَ (ابن فارس ( 395هـ)، (1993)، الصاحبي في فقه اللغة العربيّة ومسائلها وسُنن العرب في كلامها، تح. عمر فاروق الطبّاع (بيروت: مكتبة المعارف)، 54) القصة إلى زيد بن عبدالله بن دارم، وأضاف أن المَلِك كان على جَبَلٍ مُشْرِف، فلمّا قال: (ثِبْ)، قال زيدٌ: لتجدني أيها المَلِك مِطواعًا، ووَثَبَ من الجبل.
ولعلّ الحكاية أو المبالغة في تفاصيلها، في الأقل محض اختلاق، للتأكيد على الفروق اللهجية بين لغة اليمن ولغة عرب الشمال، التي قد تصل إلى الزعم أن لغة حِمْيَر ليست بعربيّة: (ليس عندنا عربيت)! انطلاقًا من مقولة (أبي عمرو بن العلاء): (ما لسان حِمْيَر وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيّتُهم بعربيّتنا)، التي ساقها (ابن سلاّم الجُمَحي).
إلا أن ذلك الشاهد الذي ساقوه من خلال حكاية (ثِبْ) لا شاهد فيه. والحقّ أن ابن السكّيت وابن فارس، كمعظم لغويّينا القدامى، نَقَلَة، تعوزهم المعرفة الدقيقة باللهجات العربيّة، وهم يوردون مثل تلك الحكاية بلا تحليل ولا تمحيص، وإلا فإنه إذا كانت لهجة الحِمْيَريّ تلك كلهجة فَيْفاء اليوم، وهو الراجح ف(ثِبْ) في الحكاية من (ثَوَبَ)، لا من (وَثَبَ)، كما فهم هؤلاء اللغويون، وساقوا تلك الحكاية ليستنتجوا منها افتراق لغة حِمْيَر عن لغة عدنان.
ولهذا يقال بلهجة فَيْفاء: (ثابَ، يَثُوْب، ثِبْ)، أي قَعَد أو استراح. و(ثِب) هنا بمعنى (ثُبْ)، إلا أنهم يُميلون الضمّ إلى الكسر في مثل هذا الموضع. و(ثابَ، يَثُوْبُ، ثُبْ): عربيّة لا غُبار عليها، بمعنى رجَع وعاد إلى موضعه ومجلسه. ومنه مثاب البئر: مكان الساقي على فم البئر. والمثابة: المُجتَمَع والمنزل. (يُنظر: ابن منظور، لسان العرب، (ثوب)).
يقول (ابن مقبل، (1962)، ديوان ابن مقبل، تح. عزة حسن (دمشق: مديرية إحياء التراث القديم)، ص142: ب1):
أَلَمْ تَرَ أنَّ القَلْبَ ثَابَ وأَبْصَرَا
وجَلَّى عَمَايَاتِ الشَّبَابِ وأَقْصَرَا
وعليه، فاستعمال (ثُبْ، أو ثِبْ (حسب نطقها في اللهجة)، بمعنى: (أقعد، أو استرح، أو اهدأ)، ليس بغريب الدلالة عن معاني مادة (ثَوَبَ)، حتى يُستنتج منها حُكْمٌ تعميميّ بأن: الحِمْيَرِيّة ليست كعربيّتنا.
فهذا إذن وهْمٌ قديم جديد، تولّد عن عبارة غامضة، عابرة، نفخ فيها القدماء ما نفخوا، معنًى، وتأويلاً، حتى صارت كالحقيقة المطلقة، والمسلّمة التي لا تقبل المناقشة، منذ نُسِبَتْ إلى أبي عمرو بن العلاء، وصولاً إلى طه حسين، في حديثه عن (الشعر الجاهلي). مع أن تلك المقولة مع التسليم بها جَدَلاً، وبما فُهِم عنها تَحْمِل الإشارة الزمانيّة والمكانيّة، إلى حِمْيَر، القديمة عصرًا، وإلى أقاصي اليمن قُطرًا.
ولقد جاء كلام ابن سلام المستشهد به عادة على افتراق لغة قحطان عن لغة عدنان في سياق الحديث عن إسماعيل عليه السلام، إذ قال: (أوّل من تكلّم بالعربيّة ونسي لسان أبيه إسماعيل بن إبراهيم.
وأخبرني يونس عن أبي عمرو، قال: العرب كلها وَلَدُ إسماعيل، إلا حِمْيَر، وبقايا جُرْهُم، وكذلك يُرْوَى أن إسماعيل جاورهم، وأَصْهَرَ إليهم، ولكن العربية التي عنَى محمّد بن عليّ هو اللسان الذي نزل به القُرآن. وقال أبو عمرو بن العلاء: ما لسان حِمْيَر وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيّتُهم بعربيّتنا).
ذلك حرفيًّا ما أورده ابن سلاّم، فإذا هذه الجملة، التي جاءت للحديث عن أوّليّة العربيّة، تقتصّ من سياقها، ثم تُسقط على قرون وقرون، وصولاً إلى عصرنا الحاضر.
وللمناقشة اتّصال.
مرفأ:
ولولا مُعَلَّقةٌ مِنْ دمائي
غسلتُ يديْ مِنْ دماءِ القصيدةْ!


aalfaify@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved