الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 26th September,2005 العدد : 124

الأثنين 22 ,شعبان 1426

ضحية من ضحايا (العم حسن)-1-
نايف فلاح
الحديث في أو عن (أديبنا الشاعر حسن مصطفى صيرفي) لا بد له أن يكون حديثاً غير مغمور بالخاطر الشائع، ذلك الخاطر الذي يصدر عن القول المعتاد في مثل هذه الشعبة من ميادين الكتابة، حتى يبدو أنه ولا شيء أكثر منه مبالغة وأشطح خيالاً، أو ربما يبدو وكأنه (إظهار من ليس). فتخرج أنت، بوصفك راوياً، مخروماً بالكذب المروق من قناة عين الرضا.. لترتد سيرة (العم حسن) هيولى وهمية تحمل عليها صفات الرفعة والرقي، فيلزم ما تحكيه عنها أن يلقى في وارد الامتناع.
أما الحديث إليه في اللقاء الأول أو لعله في اللقاء العاشر، فمن ضروراته أن يصور لك لقاء بين المثل العليا، بما هي هلام في أغوار النفس أو تخييل من تجاديف الفكر، وبين شخصية (العم حسن) التي هبطت عليها هذه المثل ففسرتها ورسمت ملامحها، كي تتنبه بغتة أنك غارق في لحظة ثقافية إنسانية وثبت، عبرها، أغلب مكوناتك المعرفية والبشرية نحو التطور أو التبديل..
شخصية (العم حسن) شخصية لا تخوم لها ولا حدود..فآهٍ من هكذا شخصية تحسك فيها مستلقياً في حضنٍ، شمله؛ تمام الوحشة مع تمام الأنس.
السابعة صباحاً، وفي كل سابعة من كل صباح، يتهادى من منزله تهادي من شفي، لتوه، من مرضٍ أو أنه أشفى على الدخول فيه، فيكون في خروجه مثول شيخ يخطو في عشر المائة عام ويكون في خروجه كذلك عنوان الصباح في هذا الشارع. ليطالعك منه رأس هائش البياض فيه على النصف من السواد، في تساوٍ يرشح منه شذوذ الفن وشموخه.. وقدمان، ربما حافيتان، ربما، خلا السراويل، ليس من ساتر، في هيئة لا جناح إن وضعته وسطاً بين مقترح العظمة ومقترح الجنون. وهذا التموسط كثيراً ما يكون حاصل حيرة تقف دون الحكم، فإنك إذا ما وقفت منه يوماً موقف المتأمل ستجدك متذبذباً إزاء رجلٍ أسفر إبقاؤه على المتحتم عن كفره بالنوافل.. وهل يطيق هذا إلا عظيم أو مجنون.
وهذه عتبة الدار ليس له عنها سوى مدب خطوتين أو ثلاثٍ، يسير فيها سيراً وئيداً لم ينل من ارتفاع قامته، حتى يلتقيها والشمس توشك أن تزاور عن صبح إلى ضحى، كيما يحين لميقات الحياة أن يعزف في ذلك الشارع، حيث تنشط الحركة وينفش الناس في بغاء التمعش والكفاء.
اقتعد العتبة، وقبيل اقتعاده، شرع، يوقظ السبات فيها، تحت دعوى النظافة والتزويق.. وأي تزويق من شأنه أن يرجى من عجوز ذي شعر منفوش وأقدام عارية؟!
ومع قعوده كان رنواً إلى حوض الشجرة يرقب فيه العهد والسقاية، غير أن التحايا والسلامات لا تنفك تصرفه، قرباً وبعداً، كلما واقعت مسمعه مواقعة تتراوح أنغامها ما بين الفصاحة والهجانة، فيتصدى لها بتحايا كأحسن ما تكون التحايا، محشوة تهليلاً وترحيباً، اللهم ما عدا إشارات صامتة لوحت بها الأيدي أو جادت بها الرؤوس، فإنها، لمكان بصره، لا تحفل منه بأي مقابل.
حتى إذا ما فرغ من حال السلام أخذ يتمايل في مقعده تمايل من احتكم لولاية عادة أو نم عن طفح رغبة، فصار يتنشد من أجلهما أحداً من أبنائه. وإذا ما قيل (أبناؤه) فإننا بذلك نحيل إلى مواضعة تختص بسيرة هذا الشيخ وحياته، لا إلى (البنوة) السائدة في معروف الناس، هذا، وإلا سوف يضطرنا التبيين والتقريب إلى الاحتبال في أنظمة العمل وعقود التجارة.. لنقول؛ يتنشد أحداً من عماله أو صبيانه.. عموماً.. لا عبرة بالألفاظ، ما داموا في وجدانه طي البنوة, وهو في اعتبارهم قيد الأبوة، وإن باتوا ينعتونه: ب(العموية) بيد أنها تفارق بمفاوز (عموية) رب العمل إزاء العاملين، لذلك ولأكثر من ذلك ليس أجدر منه لسماعها ولا أفخر منهم بقولها.
.. جعل يصوّت؛ درش.. يا درش.. درش.
سوى أنه لم يتحفز لندائه، ولا غرابة، فهذا هو مسلكه الذي لم يتبدل منذ عرفه مقربوه، فليس يرى أصحاب مذهب (العلية) منهم وعلى رأسهم (أبو دلي) في عدم اكتراثه ألا عفوية فيه على الرغم من وصفهم لها بالعادة في معارض أخرى لكنهم غالباً ما يرجعونها إلى علل تقف وراء العادة وتكوّنها ولاسيما لدى الشيخ، وأقرب عله يحيكونها حيال (اللاكتراث) هذا، أو عدم التهيؤ له هو أنه عوّض عن بصره بقدرة على الاستماع تغنيه عن أي استعداد، حيث رزق أذناً هي كما تقول العرب أسمع من قراد، أما عن أبعد علة يسوقونها هو زعمهم عدم اكتراثه في كل أمر يمسه أو يخصه، يطابقهم في هذا الشيخ (نور) عندما يستصحب الأصل في طبع العجوز (نور) هذا من أقدم أبنائه لكن حرمة القدم لم تمنعه أن يشكو العجوز لدى (الحكومة) منكراً من يومياته ما ظنه هو منكراً، غير أن بقاءه في الدار شيء وشكواه شيء آخر)..
ما حصل أن النداء أو قل رجيعه أبطأ عليه ولم يوفه إلا بعد فوات الأوان، لذلك أوكل نداءه إلى نفسه موزعاً كفيه كلتيهما تفتش في متناولها عن منديل أو خرقة، لكن عوز الظرف وفاقته أسلماه لإحدى وظائف ثوبه إما الكم أو الذيل، يفرك بهما (منظرته) لتظهر من خلفها عينان لم تمكث في أشفارهما إلا آحاد من الرموش، ومن ثم تقفل سيرتها إذ، يقلها أنف آهل بالجدري، ووجه اختفى الأديم منه تحت تجاعيد تنص على رواء قديم.
ولقد أضحت هذه (المنظرة) مع تقادم الإقامة عليه، تحقيقاً، بل جزء من تحقيق الشخصية، ودع كونها راعياً للبصر، فإنها من جانب تعمل (عفواً) كحاجب يدس عيناً أطفأها الجدري أيام غزوه المدينة المنورة، فأصاب مع من أصاب الطفل (حسن مصطفى صيرفي) منذ ما يقارب أو يجاوز الثمانين عاماً، مما أضفى على ملامحه مسوح القوة والصرامة, وكأنك، بحق، قبالة وجه مضت عليه الأيام عضاً وخدشاً، وجه يشبه الوداع فيشجيك منه ألق الحياة يغطيه الدثور.
ومثل من يلقي على الجدار شيئاً ما، أسند ظهره، فبدا، لوهلة، محطماً أو كالمحطم، وصار يجيل في اللا شيء نظره، ليتراءى فيه بيت من قصيدة (أرنو إلى لا شيء في متاه الشرود). منداحاً في الصمت، ومشمولاً بذهول غامض خلع عليه هدير المكيفات وأنين السيارات آكدية الخلوة والإيحاش، لا شيء فيه يتحرك إلا كفه التي تمسح ببطء على فخذه تارة، وتحتفر نقرة كان صنعها سقيط (المكيف) تارة أخرى في ذهول عن العالم وفناء إن لم يسهم في تعميق فكره فلعله ادكار لأيام خلت، لا من قبيل البكاء عليها، فإنه ليس من أولئك الكثيرين الذين يطغى رضاؤهم بماضيهم على ثقتهم بحاضرهم وتفاؤلهم بمستقبلهم، بل عساه يستحضر ذلك الماضي ليستحضر فيه لحظة رأى فيها اعتداداً وتأكيداً لهويته، أو مراجعة لموقعه منه، باحثاً عن نفسه في مواطن الإكبار يبتعث الثقة فيها فيعيدها، كما يقال، جذعة.
فهو، والحال هذه، لا يستمد من الماضي ساعة يخصب منها مادة رفض لكل ما هو معاصر وجديد، فما زال بعض أودائه من أهل الثقافة وناشدي الفن في رحابه، يحسبونه، على الرغم من بوهيميته، أذهب عمره بطريقة تعتمد، ابتداءً على موقف وجودي خاص أي أنها طريقة مدروسة دراسة أمنحتها بعداً استعدادياً استطاع بها الانسجام مع كل مراحل حياته. لم يشعر قط كما يشعر كثير من المزمنين بأن عمره انقضى مسروقاً منه، حتى انه كلما حاول واحد من البكائين أن يستميله إلى (قفا نبك) يفزع به العجوز إلى التاريخ سحيقة وقريبة منبهاً إلى مواطن الفصل والوصل فيه، وعارضاً ذلك في وقائع عاشها وشهد تبدلاتها عهد ما عاشر أقواماً أبكتهم حوادث معينة، وعاصر في أعقابهم قوماً بكوا ذاك الذي أبكى الأولين، إلى أن يعرج به نحو حضارة الأشياء في المدينة المنورة، وأنها من توابع الآلية التاريخية ليصل معه إلى أن هذا الزمن الذي أقض قراره، يأتيه أناس يعدونه فردوساً لن يتكرر فهو دائم التعقب لمحاسن الصور لا يقصد إلا كل رغيب وحسن سواء في الماضي أو الحاضر، ليخرج تلاميذه من هذا الحوار ومن حواراتٍ أخرى في مطارح مختلفة، وقد عرفوا معنى التثليت في المحبة والكراهة.
.. وانه لفي هذه الحال من الصمات والسأم، ندت عنه عبارة زاحرة ثابت به إلى نفسه؛ رحمة الله عليه يا زهرة.. يا رحمة الله عليك.
(زهرة) زوجة التي زفرت بقية أنفاسها من سنين قلائل بعد عشرة كانت، وشيكاً وتصافح السبعين عاماً.. آفاق إلى جوده المحسوس وعاد مرة أخرى ينادي؛ درش.. يا ردش.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved