الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 27th February,2006 العدد : 142

الأثنين 28 ,محرم 1427

الأشكال الشعرية:
هجرات ومحطات غائبة (3 ـ 3)

*د.سعد البازعي
المختارات العربية الحديثة من الشعر العالمي كانت في مجملها، وكما اتضح من المقالة الماضية واقعة تحت هيمنة تمركز غربي يحد من قدرة معديها على توسيع دائرة الاختيار والتعريف بشعر عالمي غير غربي. المختارات الوحيدة التي أعرف وأجدها خارجة عن هذا التمركز الغربي هي تلك التي أصدرها سليم مكرزل عام 1981م تحت عنوان (الشعر العالمي) وتضمنت مختارات من واحد وعشرين بلداً منها بلدان غير غربية.
غير أن نظرة سريعة ستؤكد أيضاً الهيمنة الغربية، فثمانية عشر بلداً من البلدان الاثنتين وعشرين الممثلة في المختارات تنتج بلغات أوروبية، بينما يغيب عن البلدان الست غير الغربية نتاج بلاد ضخمة ومهمة مثل التراث الصيني والفارسي، وكأن الشعر القادم من بلغاريا أو رومانيا أهم من الشعر القادم من تلك البلاد الآسيوية.
إننا بالفعل إزاء رؤية غير متوازنة للعالم، رؤية يطغى عليها التمركز الغربي، وهذا لا علاقة له بالطبع بمستوى التفاعل الذي أدى إليه ذلك التمركز، فلاشك أن كثيراً من ذلك التفاعل، سواء عن طريق تبني الأشكال الشعرية أو عن طريق استلهام بعض الأساليب، أدى، لدى الشعراء المهمين بشكل خاص، إلى إنجازات مهمة وجديرة بالإعجاب. لكن المرء يتمنى لو أن دائرة التفاعل قد امتدت إلى العالمية الحقة.
من أمثلة ذلك التفاعل الخلاق الذي أود أن أختم به ملاحظاتي، على الأقل لكي تتضح الإنجازات الشعرية الخارجة من رحم التفاعل مع الآخر لدى من أسميتهم الشعراء المهمين، ولكي أيضاً نرى نموذجاً مميزاً لهجرة الأشكال الشعرية ودخولها في نسيج شعري مغاير، ما حدث للشكل الأوروبي المعروف ب السونيت أو السوناتة أو السوناتا.
فمن بين محاولات مختلفة لتبيئة ذلك الشكل تبرز القصائد التي نشرها محمود درويش في مجموعته سرير الغريبة (1999م). تلك القصائد الست تحقق بعض الصفات الشكلية للسوناتة بشكلها الإيطالي وهو الأصلي، لأن الشكل تطور في إيطاليا أولاً على يد شعراء أبرزهم بتراركا في القرن الرابع عشر، ليرتحل بعد ذلك إلى جهات أوروبا المختلفة مكتسباً سمات شكلية مغايرة قليلاً لاسيما في إنجلترا لدى إدموند سبنسر في القرن الخامس عشر وشكسبير في السادس والسابع عشر.
وتنم قصائد درويش عن معرفة جيدة بأشكال السوناتة يوحي بها تشكيله لكل قصيدة على شكل مقاطع بعضها ينسجم مع الشكل الإنجليزي المتمثل بثلاثة مقاطع في كل مقطع أربعة أسطر وخاتمة من سطرين، بينما يخرج بعضها الآخر إلى تشكيلات أخرى.
وقد تأثر درويش أيضاً بالتقليد المتبع منذ الإيطالي بتراركا وذلك بكتابة سلسلة قصائد وليس قصيدة واحدة على أن ترقم كل واحدة ولا تعطى عناوين منفردة.
كما أن موضوع الحب أو مخاطبة الأنثى المعشوقة تقليد قديم آخر يمتد منذ بتراركا الذي كتب سوناتاته تعبيراً عن عشقه لفتاته لورا. يضاف إلى ذلك تلك الموسيقى المتدفقة من القصائد، وهي سمة درويشية مميزة، والتي تذكر بالأصل الغنائي للشكل نفسه، حيث إن كلمة سوناتة تعود إلى الجذر سون الذي يعني أغنية في لغة البروفنسال القديمة (والمعروف أيضاً أن السوناتة شكل من أشكال التأليف الموسيقي الغربي). ويلمح درويش إلى الصلة بالموسيقى في السوناتة الثالثة حين يقول:
حرير كما ساخن. وعلى الناي أن يتأنى قليلا
ويصقل سوناتة، عندما تقعان علي غموضاً جميلا
كمعنى على أهبة العري، لا يستطيع الوصول
ولا الانتظار الطويل أمام الكلام، فيختارني عتبه
هذا الأصل الموسيقي للشكل يرتبط بجذر آخر يقترحه بعض دارسي السوناتة ويلفت النظر بشكل خاص فيما يتصل بالثقافة العربية إذ تستعير شكلاً شعرياً أوروبياً.
يقول الباحث المشار إليه، وهو بول أوبنهايمر، إن السوناتة التي عرفت في إيطاليا بشكل ينقسم إلى قسمين تألفا في ذلك الشكل الشعري، هما الكانزوني canzone ويتألف من ثمانية أسطر، والسيستيت sestet ويتألف من ستة، تعود في أحد القسمين، وهو المتألف من ستة أسطر إلى الزجل العربي.
ويشير إلى أن الشاعر الذي يعود إليه تأسيس ذلك الشكل أو تأليفه وهو جياكومو دا لينتينو، الذي عاش ما بين القرنين الثاني عشر والثالث عشر، ربما يكون قد استمد الجزء الثاني من أغاني العرب المقيمين في صقلية إبان عهد فريدريك الثاني في القرن الثالث عشر. هذه الفرضية التي لا يلبث الباحث أن يتراجع عنها في الكتاب نفسه لا تبدو فرضية مبالغ فيها إذا تذكرنا أن عهد فريدريك الثاني عرف بازدهار الثقافة العربية وبرعاية ذلك الإمبراطور لها وسعيه للإفادة منها على النحو الذي أدى إلى اتهامه بتبني ثقافة المسلمين والزندقة نتيجة لذلك. ولاشك أن احتمالات التداخل بين أشكال شعرية في تلك الظروف المنفتحة وارد تماماً مثلما كان التداخل في الفنون والمعارف الأخرى التي جعلت أوروبا تتعرف على الحضارة العربية الإسلامية وعلى الموروث اليوناني من خلال تلك الحضارة العظيمة.
وما نحن إزاءه في نهاية المطاف هو ما نحن إزاءه في صلب هذه الملاحظات، أي هجرة الأشكال الإبداعية، الشعرية منها على وجه الخصوص. في هذا السياق يمكننا أن نقول بوثوق ان ما جاء بالسونيت إلى الشعرية العربية، أو ما أعاد ذلك الشكل المنتسب ولو جزئياً وعلى سبيل الاحتمال إلى العربية، هو نفسه الذي حمل القصيدة العربية إلى أوروبا من قبل، ليس فقط من خلال عرب صقلية، كما هي الفرضية، ولا حتى من خلال وليم جونز فحسب، بل من خلال تفاعلات أخرى ذهبت بأشكال وجاءت بأشكال غيرها.
وإذا كنا في هذه الملاحظات قد توقفنا عند نماذج من هذه وتلك، فإن الرؤية القصوى تمتد إلى حيوية شعرية تأخذ بالشعر العربي إلى أماكن لم يألفها على خارطة الإبداع العالمي، وتأتي إلى ذلك الشعر بما لم يألفه، ليس في شكل قصيدة تفعيلة أو نثر أو سوناتة، وإنما بما يختلف عن ذلك في ثقافات أخرى تمثل محطات ما تزال غائبة أو شبه غائبة عن مشهدنا الشعري المعاصر. فما أحوجنا إلى فتح النوافذ على مختلف الجهات لا لكي تهبط الأشكال من خلالها فحسب وإنما لكي تهاجر بعض تلك الأشكال أيضاً إلى حيث تزدهر في حياة جديدة.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved