الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 27th February,2006 العدد : 142

الأثنين 28 ,محرم 1427

غنيت مكة ..
*صالح بن حسين المحضار
على مشارف مكة.. {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}.
عندما تقترب مكة لحاج أو معتمر أو زائر فتشعر النفس بالرقة والدفء الذي يشعر به صعيد مصر أو عرفات.. هي مكة المكرمة.. كرمها الله على سائر المدن والقرى والمنازل.. يتوسطها بيتٌ كبير هو أول بيت وضع في الأرض.. يشعُّ في السماء أنواراً هي قبلة أهل مكة فيما للناس أن يلتمسوا من أنوارها.. (غنيتُ مكة).. واعتمرت من كوافيها البيضاء.. ومشيتُ في رحاب بيتها المحرم.. وشربت من مائها زمزماً لما شرب له.. ورأيت الكعبة غرّاء قد زادها الله تعظيماً وتشريفاً وبهاءً أسنى.. ومررتُ بالطائفين والعاكفين والركع السجود.. وسعيتُ في طلب الصفا والمروة ماشياً وأهرول..
غنيت مكة.. رياضاً لكل سائح، وملاذاً لكل لاجئ، وتوبة قبل الموت ومنزلاً بعده.. غنيت شوارعها البيضاء وجبالاً على مآذنها هبط الوحي.. وتنّزل الكلام.
* * *
وكأنها الجبال تتطوف بالبيت وتحرسه من همزات الشياطين.. ومناراتٌ تسع.. وقبابٌ بيضاء.. وأسواقٌ تلهج بالبيع والشراء فكأنها رحلة الصيف قد بدأت، أو أنها رحلة الشتاء.. (يتقرشون) كما كانت قريش تفعل طلباً للقرش أو الدعاء.. إذا عاين الحاج بيوتات مكة: (اللهم أنت السلام، ومنك السلام، وإليك يا ربنا يعود السلام) اللهم إني نويت طواف بيتك المحرم، واتخذت من مقام إبراهيم مصلى، ووقفت ببابك.. ملتزماً بأعتابك..
* * *
ثم لمّا تتجول في شوارها المسقوفة والمكتظة بخليط من البشر يشبه خليط البضائع في حوانيتها، فيما تشتم روائح البخور المتصاعد من شرفاتها كالدعاء.. وتتردد على أسماعك عبارتها الشهيرة (يا حاج) زمزم يا حاج، سجادة يا حاج، (رجلك) يا حاج، وتتذكر: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ..} وترى الجنائز التي تخرج بعد كل صلاة.. لتمرّ بالسوق وهي تودع أهل مكة: (جنازة يا حاج)، ويتسابق الجميع إلى حملها كما لو كانت جنازة لهم ولذلك ظهرت (الحجون) في قصائد العرب فهي بيت أهل مكة التي عكفت على احتضانهن كما لو كانت أماً للمؤمنين أو الزائرين على اختلاف أفئدتهم.. حتى إذا ما فرغت من الحجون.. شعرت بالجوع والرغبة في تناول عشاءٍ على طريقة أهل مكة، حيث لا تشعر إلا بأنك لست وحدك فالجميع معك.. يأكلون ويشربون ويتحدثون غير عابئين بالنظر إلى الوقت..
* * *
غنيت مكة.. وترنمت بأحيائها الشاهقة وهل تطل عبر شوارع ضيّقة حبلى بالباعة والصبية والمرور.. سياراتٌ تصر بدورها على العبور والتسلل من بين الأحياء كالمارة.
(اللغة) هي التي تحدد جنس المكان، والباعة، والمارة، والملبس، والمطعم والمشرب وكل شيء.. ودليلٌ من أهل مكة ضروري للسائح الذي يبحث عن مكان وزمان مختلفين عن أي مكان آخر.. أو زمن آخر.. فهنالك إندونيسيا، وهناك بنجلاديش و(ميانمار) وباكستان ونسخة عن كل بقعة في افريقيا.. أو الهند.. وملامح أخرى عديدة مختلف ألوانها فيما ألسنتهم تلهج بذكر الله {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ}.. وإذا كان لكل حسناته وبعض سيئات، فلعلَّ لحرمة المكان والمكين عليه ألا يرتكب فيهما ذنبا بذنبين، فيما الحسنة بسبعين ضعفاً، والصلاة بمائة ألف، والله يضاعف لمن يشاء، قال تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} إذ يجد الحاج إلى مكة لموطنه أثراً أو موطناً صغيراً أو حتى (نُزُلاً) كل ساكنيه لهم هيئة واحدة، ولسان واحد، والعربية هي اللغة الرسمية الوحيدة التي يتم (الإصغاء) لها من الجميع..
* * *
غنيت مكة.. غنيتها مع الشادي الذي غنى:
(أنا الآتي.. من الأرض التي شُرِّفت بخاتمة الرسالاتِ)
غنيت مكة.. ونويت أن أنزل ضيفاً على شعابها، وأن آكل من فولها وكبدها وكبابها (الميرو)، وأن أشرب من شعيرها شرابا يطلقون عليه اسم (سوبيا)..
{وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} آية لا تملك إلا أن ترددها أسواق مكة وهي تبيعك كل شيء، وبأي شيء، حتى من غير ثمن، إذ في مكة وحدها تستطيع أن تركب سيارة خاصة متعاملا مع السائق على أنه صديق (قديم) دون أن تتفق معه، ثم تتفق أنت معه أو يتفق هو إليك..
قلت له: خمسة ريالات، قال: بل عشرة، أشرتُ: هي خمسة فأشار بكلتا يديه ان هي عشرة ونقطع اصبعين قلت: بل ثلاثة قال: في رمضان يبدأ المزاد من عشرين ومضينا..
كان خفيف الظل حاضر الفكاهة، لكنه غائب عن البديهة.. يشتاق إليها، منظره يحفّز على الكلام.. تحفّز قبل أن يقول لي: كنت أعمل في هذا الفندق خلال رمضان، قلت سائقاً قال بل راصفاً.. ذات ليلة أعطتني (ملثمة) ألف ريال، قلت له: هي خمسة فاقسم لي، قلت: ولم لا ترجع إلى عملك، قال: في غير رمضان لا أحد يملك القدرة على الدفع، ثم شرع يتحدث كما لو كان طرفاً في حوار فضائي.. قلت له: ألم تكن ثمة مقابر هنا..
قال: هه!.. مقابر!.. لقد رحلت منذ زمن، قلت: ولكن الأموات لا يرحلون، قال: بلى.. يرحلون.. وشعرت بالحر..
قلت له: ألا يوجد مكيف في سيارتك، قال: كان يوجد وبعته بخمسمائة ريال، وضحكت طويلاً.. ضحكت بصوتٍ عال.. ثم تشاركنا الضحكة سوياً.. ضحكنا بصوتٍ عال.. كان يستطيع إخباري كل شيء.. أي شيء.. حتى ذلك الذي لا يعرفه كان - لعمري - سيتحدث عنه.. لقد كان يسير على بساط الريح وما درى انه قد حظي بنعمة النعم إذ بدا لي في مجمله راضياً، قانعاً، قادراً على الزهد والتطلع والتنقل فيما بين حارات مكة كما لو كانت كلها حارة له.. وكان يعرف عن كل حارة شيئاً أو بعض شيء تحدث به بافتخار كما لو كان لزوما لمهنته، فسائق أجرة (خاصة) - تلك التي يفضلها أهل مكة.. يشبه كثيراً حلاق حارة قديمة يصادف زبائنه ويفرح إليهم، قلت له: عرفت مدنا كثيرة تفوق ازدحام مكة فما وجدت ربكة تفوق أهلها وهم يقودون سياراتهم، كما لو كانوا يرون في إشارات المرور مقترحا لم ينجح، كما فشل في نابولي، أضف أنهم ينقرون منبهاتهم من أجل لا شيء.. وشعرت به يتحفز متلفتا حتى انني استدركت سريعاً: أنا لست أعنيك أنت فارتاح قليلا قبل ان يبادر إلي قبل نقطة تفتيش..
الحزام.. اربط الحزام.. ثلاثمائة ريال تدفعها انت.. كانت مائة وخمسين قلت: بل تدفعها انت، فسائق الليموزين يشترط علي أن أربط الحزام قال: ذلك (ليموزين) ويخضع لشروط الليموزين، أما أنا.. فلا التزام إلا بشروطي.. وشعرت بالخصخصة وتحفزت له: لم بعت مكيفك إذن.. هذا يتناقض مع مبادئ الخصخصة.. وتردد قليلا كأنه يفكر.. ولزم كلانا الصمت فكان ثقيلا عليّ وعسيراً عليه، قال لي:
سيارتي هذه تستطيع الذهاب إلى سوريا بل إلى أبعد من ذلك سألته ان زار سوريا قال: لا، ولكنهم يقولون إنها بعيدة ووجدت حديثه معلولا مقبولا كسائر أهل مكة الطيبة.. وقدرتهم العجيبة على القناعة والزهد والرضى.
* * *
إنها مكة المكرمة.. جامعة المسلمين إلى قبلةٍ سواء.. يرتضيها المسلمون في الغرب والمسلمون في الصين.. وفيها وحدها يمكن أن تلتقي بشاعرٍ مغربي أو عالم مصري وحكيم هندي، وتاجر من الصين، وأناس من البربر وآخرين من بلاد العراق، كما يمكن أن تصلي مع حجاج من روسيا وبخارى وسمرقند وتشاهد وفدا كمبوديا وتمايز ملامح افريقية أو أخرى آسيوية أو حتى من غرب أوروبا.
* * *
غنيت مكة.. وجبالاً تملك أسماء.. فهناك جبل النور - وهو مصطلح يشع عن نفسه - وكذلك جبل الرحمة {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}.. وإذا ما أردنا التعرف إلى جبال مكة.. أو شعابها.. فلابد لنا من الارتجال عن أنفسنا، وان ندع أقدامنا وهي تخطو إذ ليس من سمع - كما قيل - كمن رأى..
لازلتُ أنزلُ من ودادكِ منزلاً تتحير الألباب عند نزوله انطلقت صاعدا عبر جبل.. وعبرت سبيلا تشرف على جانبيه البيوت، وفوجئت - كصاحبيّ - باستراحة تعود بالزمن إلى عصر زبيدة، ووجدنا الماء (معدنياً) بارداً وبريال واحد فقط (سعر السوق)..
إليكم المشهد:
إذا ما نظرت إلى الأسفل.. فقد قطعت شوطاً لا بأس به.. بل هو طويل.. وإذا ما نظرت أمامك ابتعت بطاقة بريدية تقدم لك الغار على طبقٍ من ورق.. فإذا ما نظرت إلى الأعلى شاهدت خيوطاً رفيعة من البشر.. الذين يتشاركون في الرحلة معك إلى غار حراء..
أحدهم قال وهو يجيب على سؤالٍ لي: الطريق طويلة.. لكن رفيقة دربه قالت: بل الطريق مطوية.. وصعدنا لا نلوي على شيء، فإذا ما اشتدت أنفاسنا علينا.. توقفنا.. وتوقف معنا آخرون..
الصاعد كان أكثر لهفةً على معرفة شيء.. أي شيء.. فقد كان ينظر إلى نوق، والنازل كان يتقي بيده حرارة السماء. ثم ينظر إلى مكة.. كان النظر إلى الوراء باعثاً على الإحساس بالرهبة.. لكن بضعة درجات (اسمنتية) كانت تلوح ما بين المنعطف والمنعطف لتبعث على الإحساس بالدفء والسكينة.. إليكم جزءاً من المشهد:
بضعة رجال في ثياب وملامح سندية.. يكافئون أنفسهم لرصفهم الطريق ببضعة ريالات منك، والمسابح مازال سعرها ريالا واحدا (أقل من سعر السوق)، وهناك من يمشي على قدمين، أو قدم واحدة وهناك من يشير بيدين أو يد واحدة، فيما لم أجد بداً من سؤال رفقتي: كيف يتمكن هؤلاء من الصعود إلى هنا!؟
ولما حرنا جوابا، واصلنا السير حثيثين إلى قمة الجبل.. الحقيقة انه لم يعد سيرا بل كان تسلقا للروح يشبه تسلق قمةٍ ايفرست دون اللجوء إلى عصي أو حبال..
ثم ما لبثت ان انتصف الجبل - أو هكذا خيّل إلينا - فيما أخذت القمة شكلاً يصعب الولوج منه بيد ان النساء كنَّ أكثر قدرة على دفع انفسهن من الرجال الذين كانوا يستغلون فرصة التوقف ليسمع الصاعد من النازل كلاماً يدفع به إلى أعلى..
والماء مازال (معدنياً) بارداً بريالين (سعر الموقف)..
عريشٌ أقرب للسقيفة، وكما يحدث في أية سبيل - هناك مسافرون يستريحون كلما جثا بهم التعب ليجدون عريشا من ظل لا يملكه أحد.. والمشهد كان مكة البيضاء.. تخيلتها لوهلة: أكواماً من اللؤلؤ.. هل أتجاوز حين أطلق عليه (بانوراما)، ولولا أن سبقني أحدهم إلى قول مثله لقلت: (إن الناس قد انقسموا إلى قسمين) أولئك الذين شاهدوا من هنا مكة وأولئك الذين لم يشاهدوها..
ولم يعكر صفو اللحظة شيء، لكنّ أحدهم كان يصرخ محذراً أحداً من الاقتراب منه، وهو يطلق زفيراً من صوتٍ كان مخيفاً بالنسبة لمعظمنا، وكأنما قد حقنت روحه بلسعةٍ من نور لكنها تحرق.. أحدهم قال: إنه مغربي، وآخرٌ قال: إنه من حجاج تركيا، فهو من أهل مكة ويعرف عن الحجاج جيداً، فيما اكتفت النسوة بدفع أنفسهن حثيثات إلى حيث تقترب قمة الجبل أو يقتربن هن إليها، وتسمع صلواتٍ على النبي فيما يتردد كثيرا اسمه (محمد) فتصلي على النبي، ولما تسمع اسما كجبريل عليه السلام وهو المأمور بعدم إخافته صلى الله عليه وسلم وآله وسلم فيقول له: (اقرأ) - ما أنا بقارئ فيقول له: اقرأ، - ما أنا بقارئ فيقول له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}.
ونداءً كهذا والخطب جلل كان قد أخذ من الرسول - فدتهُ نفسي - قبل أن يدثَّر أو يزمَّل ما يزيد على ستة كيلومترات كما زعم لي حينها أحدهم عندما سألته (مباغتاً):
كم تبعد عنا مكة؟
وتنفسنا ما شاء الله لنا أن نتنفس من نفحات هي أقرب منها للإيمان أكثر من أي شيء آخر:
محبٌّ ليس يدري من يحبُ
ولا ماذا يحبُ: أَيَسْتتبُّ
إذا هبّتْ نسيمات المعالي
تزلزلَ قلبهُ إن كان قلبُ
وإن سجعت حماماتُ العلاليِ
على أغصانها تراه يصبو
فهل هذا من الأدواء داءٌ
يداويه ويجدي فيه طبُّ
فسحةٌ سبحان من أفسحها تحيط بها الصخور من كل جانب، وقد كنت أحسبها - لقصوري - بعيدة صعبة فإذا هي تعج بالقاصدين على مختلف مقاصدهم..
إذا عاين الحاج بيوتات مكة:
(اللهم أنت السلام، ومنك السلام، وإليك يا ربنا يعود السلام).
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved