الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 27th February,2006 العدد : 142

الأثنين 28 ,محرم 1427

البريد الهندي: من كابول إلى بغداد (3)

............... فاضل الربيعي
كان دعاة تحرير العراقيين من الاستبداد التركي، إذ ذاك، وبدلاً من الاهتمام بمطالب الفلاحين المعذبين في الريف، يضعون نصب أعينهم هدفا آخر لا صلة له بشعار التحرير، هو نهب الأرض والاحتفاظ بها كمستعمرة. ولذا انتقلوا بسرعة من هذا الشعار إلى إنجاز خطط نظرية، ثم عملية لإنشاء مستوطنات أوروبية تبدأ في الحال، وفي إطار عملية اختبار لرد الفعل، بتوطين الهنود في الريف العراقي.
وفي هذا السياق سعى البريطانيون إلى ترويج ما عرف بمثال مقاطعة أوده (أو اوض) OUDH الهندي كحل مثالي لمشكلة الأرض؛ بينما راحت المس بيل سكرتيرة المكتب الشرقي تروج من جانبها للنموذج المصري في الملْكية الزراعية، والتركيز على ضرورة مضاعفة وجود الِملْكيات ذات المساحات الصغيرة، التي لا تتجاوز الخمسة أيكرات.
عكس هذا التعارض في أشكال الحلول المعروضة على الفلاحين في الريف، تعارضا أكبر وأشد ضراوة كان يدور بين المكتب العربي في القاهرة وقيادة الجيش الهندي البريطاني.
ومن الواضح أن أصحاب الحل الهندي كانوا، في هذه اللحظة، أصحاب الكفة الراجحة في التنافس وذلك عندما قدم هنري دوبس معتمد الواردات البريطانية في الإدارة المدنية، خطة تقضي باعتماد نظام دعاوى العشائر الذي سوف يصدر في العام 1918م. وسوف تكشف التطورات اللاحقة أن طاقة المجتمع العراقي وثقافته القديمة القوية، قد أحبطتا في خاتمة المطاف هذا المشروع؛ الذي أمكن لبريطانيا ومستوطنيها الأوروبيين البيض تحقيقه تالياً في زمبابوي وليس في العراق. كان الاستشراق آنئذٍ، كما هو ما بعد الاستشراق اليوم، يفيض بحلول وتصورات سوف تهدر بعنف عند سواحل أفريقيا.
قبل صدور هذا القانون بنحو أربع سنوات وتحديداً في خريف العام 1914 سعى الإنجليز - من خلال إثارتهم لمشكلة المنازعات حول الأراضي بين الفلاحين أو ما سيعرف تالياً بقانون تسوية الأراضي - إلى تهيئة الأجواء لتوطيد سياساتهم في كسب كبار الملاكين وتحطيم الخصوم المحتملين للاحتلال داخل طبقة الشيوخ والملاكين ورجال العشائر، كما حدث مع عبد الواحد الحاج سكر في الديوانية، وهو أحد كبار الملاكين المشاركين في ثورة 1920م.
لقد انتزعوا منه، بفضل هذا القانون، كل ممتلكاته من الأرض تقريبا ودفعوا به نحو الإفلاس.
كان هنري كونوي دوبس، بدوره، من كبار موظفي حكومة الهند، ومن أبرز (المنظرين الهنود) الذين اكتسبوا خبرة استعمارية فريدة أثناء عمله في أفغانستان كموظف واردات، قبل أن يستدعيه برسي كوكس إلى البصرة ليعمل تحت امرته. كانت خبرته الهندية موضع تقدير مرؤوسيه. عمل دوبس في الريف العراقي وفي المسألة الزراعية (كمنظر هندي) وليس كضابط بريطاني، وهو جاء ليقدم للعراقيين عصارة خبرته الاستعمارية هناك وحسب.
في هذا السياق قام القنصل البريطاني في المحمرة (البصرة جنوب العراق والتي اغتصبها الإيرانيون فأصبحت إيرانية إلى الأبد) بترتيب لقاء مع السياسي الغضوب والمتغطرس طالب النقيب المعروف بالسيد النقيب، وهو شخصية سياسية شرسة لعبت دوراً مهماً في تاريخ العراق، من أجل إقناعه بالحل الهندي لمشكلة الأراضي ذاكراً له: الفوائد التي جناها راجات الهند (الملاكين) الذين ساندوا الإنجليز والنكبات التي نزلت بمن رفض التعامل معهم. في هذا اللقاء أعاد القنصل البريطاني تذكير النقيب بالدور الذي لعبه ت.ي. لورنس (لورنس العرب) عندما وصل العراق في أولى سنوات الاحتلال من أجل تنظيم ثورة ضد الأتراك، وان لورنس استمع إلى نصيحة ثمينة، إذ ذاك، تدعوه إلى الاتصال بالعشائر. توضح هذه الواقعة المهمة حقيقة قلما لفتت انتباه الباحثين، وهي أن خطاب التحرير الاستعماري لم يستند في الأصل، وبشكل متعمد إلى ما بدا انه تحول في الأفكار أو الرؤى إزاء مشكلات العراق الزراعية، أي التحول باتجاه قبول العلاج الهندي؛ أو أن هذا الحل هو خلاصة نقاش جرى بعد الاحتلال وليس قبله.
إن الوقائع آنفة الذكر تفيد على العكس من ذلك بوجود اتصالات مبكرة قام بها (المنظرون الهنود) مع العشائر لاختبار إمكانية تمرير المشروع الهندي.
ويتوجب القول، هنا، وبدلا من هذا التقدير غير الحصيف، انه كان هدفاً أصلياً وحقيقياً تم التستر عليه ببراعة تحت ستار كثيف من الشعارات عن (المدنية والتحرير والخلاص من الاستبداد التركي).
وهكذا - وباستخدام تعبير عالم الاجتماع العراقي عبد الجليل الطاهر- فقد اتبع الإنجليز نظرية في حكم العراق تقوم على القاعدة التالية: من يستطيع السيطرة على شيوخ العشائر يستطيع السيطرة على العشائر. ومن يسيطر عليها يحكم العراق بكل سهولة.
على هذا النحو تطورت نظرات البريطانيين لاحتلال العراق وتطور أسلوب حكمهم.
إنه امتداد لمشكلة أخرى وفي بلد آخر. أو هو مشكلة هندية تمددت واستطالت حتى شواطئ الخليج العربي. في هذا الإطار تمت مراجعة خيارين محتملين أمام إدارة الاحتلال لتسوية مشكلة الأرض: الخيار الأول: إعادة إنتاج نموذج مملكة - مقاطعة (اوض) أوده - OUDH وأجزاء أخرى من الهند، وبالتالي تفتيت الملكْيات الكبيرة من الأرض وخلق طبقة من البارونات واللصوص، جديدة ومنقحة ومهذبة من أي ميول عدوانية ضد (المحررين البيض) ويمكن الزج بها في النزاع الداخلي كقوة منظمة، وذلك تمهيداً لظهور مستوطنات زراعية أوروبية هادئة ومنتجة.
والخيار الثاني: وهو ما عبّرت عنه المس بيل: خيار مُضاعفة الملكيات ذات مساحة الخمسة عشر أيكرات، إلى حدود الأراضي القابلة للزراعة. وهذا الخيار يمكن وصفه بأنه شبيه بما تم في مصر عندما جرى تطبيق قانون الخمس فدانات، والذي زعم انه سوف يخدم الوجود البريطاني هناك. ويبدو أن أصحاب الحل الهندي تمكنوا، في النهاية بالفعل، من فرض تصوراتهم لمشكلات الأرض في العراق. وهكذا قدم هنري دويس معتمد الواردات في الإدارة المدنية البريطانية تصوراته وخططه، لإدخال نظام دعاوى العشائر الذي صدر عام 1918م.
وسوف نرى تاليا كيف أن هذا النظام هو الذي دفع بقادة وزعماء عشائريين مثل عبد الواحد الحاج سكر في الديوانية، إلى تأجيج الثورة ضد الإنكليز بعدما اكتشف أن هؤلاء وعبر هذا النظام، قاموا بتجريده من ملكيات واسعة للأرض بحجة أنها أراضٍ متنازع عليها مع أفراد عشيرته.
ثمة معطيات زاخرة وغنية بالأمثلة عن رد الفعل الشعبي ضد الاحتلال في الأرياف كما في المدن؛ تتشكل اليوم في التصورات الأمريكية عن العراق وبصورة تشير إلى تماثلها التام مع النموذج الكولنيالي البريطاني. التحول نفسه الذي حدث ذات يوم لصورة هذا البلد في خطاب الاستشراق، يكاد يكون التحول نفسه في خطاب ما بعد الاستشراق. لقد تم الانتقال من سياسة التحرير إلى سياسة مواجهة وتطويق رد فعل السكان ومعالجة مشكلة مقاومتهم للاحتلال.
ومقابل قيادة الجيش الهندي البريطاني في الماضي، توجد اليوم قيادة عسكرية أمريكية هي ذاتها التي قادت الحرب على أفغانستان، فضلاً عن القيادة المشتركة الوسطى التي تدير العمليات الحربية في (المستعمرتين) العراقية والأفغانية.
وبدلاً من الضباط المشاركين في الحملة العسكرية البريطانية على العراق ممن عملوا في الهند، ثم أداروا العمليات ضد الفلاحين الثائرين، نشاهد اليوم ضباط الحملة الأمريكية على نظام طالبان وشبكات القاعدة وبن لادن، وهم يديرون العمليات العسكرية ضد المقاومة العراقية.
إنهم يتصرفون وفقاً للمنطق نفسه: كل شكل من أشكال المقاومة هو إرهاب أفغاني المصدر والجذور، امتداد لمشكلة أخرى، وتماماً مثلما تصرف البريطانيون إزاء الثورة الشعبية الكبرى. ترك الإنجليز معالجة التمرد العشائري في البصرة عام 1920 لضباط الجيش الهندي - البريطاني، الذين تصرفوا- بدورهم - طبقاً لخبرتهم في الهند وعلى أساس أن التفجر الاجتماعي في الجنوب والوسط العراقي، مماثل للمشكلات التي واجهها هؤلاء في مقاطعات الهند. وان الراجات الهنود هم أنفسهم شيوخ الفرات والجنوب.
في الواقع، ظهرت رغبة بريطانيا في جعل العراق محمية بريطانية مع إعلان الحاكم الملكي العام أرنولد ولسن في آذار - مارس 1914م؛ أي قبل أربع سنوات فقط من اندلاع ثورة العشرين، انه يود أن يعلن: إنه من الضروري ضم العراق إلى الهند كمستعمرة للهند والهنود، حيث تقوم حكومة الهند بإدارتها وزراعة سهولها الواسعة بالتدريج وتوطيد أجناس البنجاب المحاربة فيها ثم تجسدت بصورة أكثر وضوحا في شباط - فبراير من عام 1916م عندما نشر هنري دوبس H.R.Dobbs ما سوف يعرف بنظام دعاوى العشائر الجزائية والمدنية؛ وكان ذلك هو الأساس المعتمد في التعامل مع العشائر والقبائل.
لقد وضع هذا النظام على غرار نظام شرعه روبرت ساندمان Robert Sandman في بلوجستان بالهند نحو العام 1875 واستند إلى مبدأ تقوية العشائر تحت زعامة شيوخ تابعين وخاضعين لسيطرة الضباط البريطانيين، وذلك هو الاتجاه الذي سارت فيه السياسة البريطانية في العراق على طول الخط، كما حدث في نموذج منطقة سوق الشيوخ في الناصرية (جنوب) عندما حصرت السلطة في يد شيخ واحد في كل اثنتين وعشرين عشيرة.
لقد انقلب شعار تحرير العراقيين من الاستبداد التركي، إلى خطط وبرامج للاستيلاء على الأرض. كان العصر بحق عصر فتوحات استعمارية لأراضي شعوب (رجعية) و(متخلفة) وغير متمدنة وتكره التقدم بالغريزة. ذلك هو بجلاء الاستشراق السياسي القديم.
في حزيران - مايو وبعد أشهر من سقوط بغداد رتب برسي كوكس للقاء مهم مع رجال العشائر والملاكين الكبار في الديوانية، من أجل أن يتأكد بنفسه من الجواب المفترض على سؤاله الحائر: هل أن رجال العشائر يحبون الأتراك أم الإنجليز؟ ما تلقاه كوكس كان محيراً: إن رجال العشائر لا يحبون الأتراك ولا ينسون ظلمهم لهم؛ إذا ما وفيتم أيها البريطانيون بوعودكم ومنحتم البلاد استقلالها، وقمتم بتنفيذ ما جاء في بيان الجنرال مود الذي وعدنا بالحرية.
التقط رجال العشائر وفي وقت مبكر للغاية، وبحسهم الغريزي وذكائهم الفطري، أولى الإشارات عن المدى المتوقع للسلوك الاستعماري الفظ عند موظفي إدارة الاحتلال، ففي لقاء آخر جرى تنظيمه مع المس بيل أيقن هؤلاء أنهم يتعاملون مع رجال ونساء الحملة البريطانية الاستعمارية، الذين يتسمون بالصلف والغطرسة غير المألوفة: أخذت تسألني أسئلة مشابهة لأسئلة بيرسي كوكس، فأجبتها بما أجبته، فظهر الامتعاض على وجّهها جلياً لأنها كانت ضيقة الصدر وتكلمت بعبارات لا يصح لسياسي أن يتفوه بها حتى ولو كانت امرأة.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved