الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 27th February,2006 العدد : 142

الأثنين 28 ,محرم 1427

استراحة داخل صومعة الفكر

................... سعد البواردي
الهجير.. والهجر فرعان لشجرة.. فرع حار.. وآخر مر.. أنفاس الهجير حارقة.. وأنفاس الهجر موجعة للقلب.. أيها اصطفى شاعرنا لمضامين شعره.. هجير الحياة التي تكوي الأجساد؟! أم هجير المحب الذي يخلف اللوعة والوحشة في دنيا صاحبه؟ أم كليهما اختار؟
إلى والده جاءت البداية:
ابتي يا نور عيني البعيدة
ومدى أحلام آمالي الفريدة
هاك من عمري احاديث الصبا
وانتفاضات من الدنيا جديدة
وددت لو أنه شدد كلمة عيني لأنها ضرورة تفصل بين المثنى والمفرد.. يبدو أن شاعرنا استخلص من ديوانه تجارب حياة آثر أن يكون والده الشاهد عليها: أولى تلك الذكريات:
كل ما في الكون مات غير ذكرى شاعر
واحلام فائز بين أوتار الحياة
وانفراج الامنيات والسكون الغاء
تلك هي الذكرى بعضها ونصها.. كل شيء حوله لا حياة فيه.. بهذه السرعة أطفأ شاعرنا في وجهنا شمعة أمل كنا نتمسك بضوئها في رحلة تبدو بدون قمم (صرخة الدم) صوت ثأر ينادي بأخذ الثأر.. هكذا أتوقع:
يا راكد الثأر ناحت عندك القيم
استكلب الخادع المذاق والنهم
وازلزت من بقايا الحق اروقة
في القدس اجدادنا كانت وكان هموا
يا جمرة الثأر شبي فاطراء كما
تبغين منتفضا والخطب مضطرم
والعار لا زال يكوي من حرائرنا
محارما نهبت، واليوم تقسم
الشعر يا صديقي كي يكون منضبطا لابد وأن تواكبه إشارات الضم والفتح والكسر لجمله كي يسهل على القارئ العادي قراءته وفهمه وهو ما حاولت أن أستكلمه مفردة (مذاق) تحتاج إلى تصويب بمفردة أخرى (مشددة) والأفضل أن تكون (المحتال) مثلا كي يستقيم للشطر وزنه.
مقطوعته الشعرية الطويلة انعكاس حزين وقلق على نكسة حزيران الموجعة والمفجعة في آن معا:
بضع وعشرون عاما لا افندها
لكن حزيران وهو السم والدسم
مشى بأصلاب آلام ينفرها
جهل ويذمرها التفريق والعدم
حتى اشتمت كلون القار يرضعه
من اعظم الجيل اثر النكسة الرخم
وهب من يلفظ التدليس مخترقا
كل التخامين لا واه ولا درم
أشعر يا صديقي أنني في حاجة إلى قراءة بعض مفرداتك كي أستوعبه.. وإلى مضامينك كي أفهمها.. ربما تكون أنت على حق لا أعرفه.. إلا أن الذي أدركه أن عبارات الشعر يجب أن تكون لها الشفافية، والموضوع بعيدا عن بعض الكلمات المجترة والغريبة عن الفهم العادي.. شاعرنا يستنهض الهمم.. ويخاطب رمز الأمل لديه:
يا قائد الفتح حقا ما تقوم به
أو ما تخطط لا زلت بك القدم
وبندقيات نور قمت تشعلها
جوف الردى والذي تجابه الأمم
فامض على شعل الأنفاس رب فدى
يعدي مدى أو تهادى عنده الحلم
هناك تقتحم الأضواء ماردة
حتى يصفق محموما دم ودم
ليت الضحايا التي ذابت ردى وهج
على فلسطين تدري انه ضرم
إلى أن يقول:
يا قدس اقوى من الايمان حرمتها
اني وان ضمني القيصوم والسلم
تشرعه لا يرى الا السلام هدى
يفيض بالحب للدنيا ومن حرموا
جملة (بندقيات نور) لا غبار عليها.. وإنت كنت أستحسن بندقيات نار) لأنها سلاح المعركة المباشر.
أمانة الحرف.. ولبنان.. قرأتها.. فيها الكثير.. وعليها الكثير من الملاحظات.. أمانة الحرف نفسه دعتني للتجاوز لأن استغراقها يستلب معظم دقائق الرحلة.. وهي ليست بالطولة.
(من مذكرات معلم) اجتزئ منها هذه الأبيات:
ومن عاش في التعليم يسفح روحه
سيبقى قنوعا بالقليل ومسترا
غريب فما ينفك يستمرئ القهر
وينفر من احسان عيشه نفرا
ويجذب من بلواه آلاف أهة
يحمل منها اللؤم والهون والوزرا
يسام على اوضاعه وهو سادر
على البخس لا خيرا يرجى ولا شكرا
دعوه فقد لا يستقيم على الندى
سوى الرخو والمركوب لا يركب الوحرا
هكذا جاءت مذكرة شاعرنا الكريم عن مهنة المعلم مشقة عمل.. ومشقة كسب كما يراها.. لا ادري أكانت توصيفا لحالة عانى منها فرد أو أكثر.. ربما.. وما أدري أن المعلم في حاضرنا يتمتع بامتيازات مادية أكثر من غيره.. فالعلاوات لا تتوقف عند حد.. حتى تلك المرتبات الصغيرة نسبيا انها سرعان ما تنمو على مر السنين وتتحسن.. ومع هذا فشاعرنا أدرى بالتجربة.. ومن مذكرات المعلم.. إلى نظرته عن الكون:
هذا الفضاء وهوه الرحب
وحراسه المستمسك الصعب
الا خيوط من غرائبه
لا الفكر يدركها ولا القلب
هذا الفسيح وما يخبئه
من مدركات بعدها ذنب
جلت عن الامعان عالقة
في اللانهائيات أو تصبرو
الأذهان أقرب إلى التصور من الامعان.. يا عزيزي.. واصل بعد مطاف طويل في قصيدته وكل قصائده طوال إلى قوله:
ياذا الفضاء السمح مقدرة
ان قلت ما لم تحوه الكتب
فالليل شيء كنت أرهبه
طوعا ولي من جنه صحب
أقضي بهم ما شئت من عكس
عاف إذا ناجيتهم لبوا
حتى إذا ما الصبح أيقظه من
بعض الخبايا واستوى الركب
غنيت كالشجر افئدة
مثل السحاب وروحه الخضب
الروح يا شاعرنا مؤنثة.. والخصب مذكر.. حسنا لو جاءت على النحو التالي.. مثل السحاب ومزنه الخصب أما عن الجن فإن فرائصي ترتعد لذكرهم ناهيك عن صحبتهم.. أخاف أشباههم فكيف الحال بأجسادهم وأرواحهم.. أعترف بأنك أجسر مني ألف مرة ومرة حتى ولو كانت رفقتك لهم مجرد خيال عابث..
ومن الكون إلى الدهر من غرفة إلى أخرى مماثلة نقضي مع الصديق البخيتان تجربته التي أطلق عليها (لعبة) والدهر لا يلعب:
بين جنبي الذي لا أجحده
كبد حرى ونفس مجهدة
حرك الدهر بها لعبته
- لا رعاه الله - يشوي الأفئدة
غال مني صفو ما أمَّلته
فاحسيت الأمس منه اربده
من لملهوفه يلوي روحه
هم جيل عق منه أسعده
شد من اعصاب اعصابي اذى
عب صبري حائرا أو ممده
أعصاب أعصابي كثيرة.. ألا ترى أن تكون (أوتار أعصابي) مثلا.. ثم مفردة (حائرا) ألا ترى أن تكون (سائلا) في مقابلة للجامد..
(البائس الأعمى) إحدى محطات هجير شعره:
أعمى، فلا شمس تضيء له، وقد
ضاء مضاجع غبطة وطولا
فرعي رحيب الكون كوة مظلم
راح يموج لأمة دخلولا
أخذ الطريق عليه فضل عباءة
غبراء تحضن هيكلا متحولا
مسكين مد عصاءه متخطيا
بعض الوعود محاذرا وخجولا
ما إن يراه على الدنية شامت
أو يلق بالعذر الضعيف عذولا
فإذا بهذا الشيخ يذهب جانبا
كيما يلامس مربعا معزولا
صدقني يا عزيزي الشاعر انني أشبه بذلك البائس الأعمى أتلمس طريقي في تعثر.. فالسرد وبعض التعابير أقوى من فهمي..
أتجاوز (ليل منفوحة) فمطبات دربه شاقة على الحركة والاستيعاب لعله أدرى بها مني.. وأعرج على مقطوعة (مع الشك)..
لا تهجرني اخا (سلمى) فما برحت
مودتي فيك أحياها كمرآتك
روحان والألق الوهاج لفها
حس مدى الغيب في ذاتي وفي ذاتك
أكبرت فيك طموحا شد من ألمي
أوهز من صبوتي باقي حكاياتك
فإن تناسيتني من غير موجدة
أو تلق موجدة فارفق بفراتك
الحمد لله.. وجدتها كما قال أرشميدس.. وجدت هذه المرة شعرا مقروءا أشيد بوضوحه وجلاء صورته.. شاعرنا غذا لا تعوزه الموهبة الشعرية وإنما يعوزه التأمل.. وانتقاء الجمل والمفردات التي لا تحوج قارئها إلى مراجع اللغة العربية كل يدرك الفحوى والمضمون الشعري..
نثرت من اضلعي الحرى حديث صبا
وصفت من أنتي الولهى غواياتك
حتى إذا صرت مني فيض خاطرة
حفل الردى آية تسمو براياتك
ماذا بعد كل هذا؟! شكوى.. نجوى.. والنهاية:
تركتني.. وامتطيت البعض منفعلا
كأنني علة من بعض آفاتك
لا تعتذر قد رعات أغار بنا
ظلما يفند من أشيائي اشتاتك
ومن شكر إلى يقينه.. إلى حره.
مهليلي تلك الأسرة
واسحقيني الف مرة!!
وانثريني في حوافي البيد
للأجيال عبره
يا حديثا عشقت منه
عبرة حرى.. وفكره
اتركي الغادي. وأمره
يعصر التبريح عمره!
فهو مغلوب مضاع
ما تنبى.. وانت حره
أبيات دافئة خفيفة الظن تشهد لشاعرنا قدرته على أن يعطينا شيئا نقرؤه.. ونستقرؤه كقراء.. ملاحظة شاعرنا يجيد في قصائده القصار أكثر.. الطوال ربما ترهق الذهن.. وترهق المفردات أيضا..
في مقطوعة (افهميني) يقول:
بأبي أنت وأمي يا ثريا
وبما ألقاه في دنياي حيا
يا مدى أورده أسطعها
حرقان تشعل الدنيا دويا
مضغتني للأسى أو ارسلت
مرجلا يكوي ضلوع الذي كيا
ان نفرت الجرح في خاصرتي
فاعذريني قد تمادى الدام فيا
جميل هذا السرد.. أعط لنا منه المزيد..
أفهميني أن نفسي حرة
وفؤادي كان جلفا بدويا
ولقد عايشت آمالي شقيا
ورمت بي في البلى احدى يديا
بيد غلى مرسل الشعر الذي
ينفث الإيمان حبا ابديا
تلك شهادة حق منك لها.. وشهادة حق مني لك على جميل صياغتك ووضوح رؤيتك.
(ثريا) الثانية نالت نصيبها من (ثريا) الأولى.. كلاهما ثريا.. والمناجات هي المناجات.. هناك من ينتظر دوره أنه (المنى) في شخص (منى)
وقفت تسائل من أنا؟
حتى اسوق له المنى؟
اتراه يعرف أنني؟
تلك التي تدعى (منى)؟
أبطفلة مثلي يهيم
أخو المودة والعنا؟!
سفحت لياليه الطوال
عليه أفظع ما جنى..
ورمته في درب البريئة
عابثا.. متلونا
هذه هي المقدمة.. يأتي من بعدها:
قومي نعاقره الهوى
آماله.. آمالنا
ما خاب من مسح الطموع بوثبيته ولا دنى
هل أنها عاقرته هواه كما يرغب؟ أبدا كان هو وحده يغرد خارج السرب: ومن منى الصامتة إلى غنوة العيد هل أسعدته؟!
هيفا قد شف منها الستر ما نهدت
به كعصفور روض غاب في الثمر
رحماك ما هذه النار التي احترقت
كالمندل الرطب بين الدل والخفر
يذكيه ان الهوى كالنور منطلق
رسوله من مدار الشمس للقمر
يروي لعشاقه أطياف ساهرة
مسته خلف سكون النوم والسهر
كل هذا جميل.. وتبقى النهاية هي النهاية.. لا صوت إلا صوت العاشق يحتضنه سكون المناجات.. نتجاوز مع شاعرنا محطة (الوعد) الذي لا يأتي.. و(تعالي) لأخرى متعالية كبيرة على الحب، ونتوقف مع شاعرنا في دعوته (ادعوك)
قصّي لبعض الحاقدين غرامي
واستمسكي بالنزر من أوهامي
فلقد نسيت الحب بعد فراقنا
ضربا من النزوات والأحلام
مفردة (نسيت) غير مناسبة.. الأنسب (ولقد حسبت)..
سفراء ما ضن الغرام على امرئ
ولت مطامعه مع الأيام
فاستقبلي عتبي كجرح دامي
متغلغل الأدواء تحت عظامي
الأسقام أو الأمراض انسب على ما أحسب من الأدواء.. المولهون والمدلهون بحبهم عرضة للخطأ.. ترى هل أن شاعرنا معيض البخيتان غلط في حبي.. لنستمع إليه:
أني عندك أن تردي بائسا
أو تجهلين حقيقتي ومقامي
فلقد قطعت من الهجير أمضُّه
حان أجرجر - والدما - أقدامي
وملأت من لفح الرمال حميئة
رئتي شعوري غبطتي إيلامي
أشياء كثيرة متفاعلة ومتداخلة في وجدانه لا تستطيع فرزها لأنها غير قابلة للفرز:
وسفحت من وجهي أقانينا على
عتبات ذي الحنقات والأنقام
كيما أفوز بنظرتيك وقد مضى
عمري رهين البؤس والأسقام
القفلة الشعرية لغزله واحدة.. هو وحده الذي يغني على الهجر على وقع لسع الهجير الكاوي.. لا جديد تحت شمس شاعرنا فعتمة الحبيب قائمة وحنجرته بحت لكثرة ما نادت وناجت.. ولأن الليل قدر لابد من ولوجه.. كانت المحطة الأخيرة لديوان (الهجير)
غرق الليل في مدى الطريق
وثوى النجم في الفضاء السحيق
واستنامت على الشفاه كؤوس
منعمات في ليلة من عقيق
حسرت مدها ستائر فصل
صباحك البشر اقترع الإبريق
وتأتي نهاية المطاف دون قطاف:
يا حبيبتي روح الهوى والبريق
لحظة من مدار فرح وضيق
فاشطبي من رسالة الأمس عذرا
وانثريها على مهب الحريق
وأريقي من أحرفي اللائي ذابت
ما تعصّى ولا تصدي رحيقي
بهذه التجارب الدافئة. والحارقة.. التي أوقدها شاعرنا العزيز معيض البخيتان على نار دافئة جلنا وعلى نار حامية كانت لنا معه صحبة شيقة في جانبها الوجداني.. ومشرقة في جانبها الإنساني.
ثقافة شعره العاطفي أوضح صورة.. وأفصح عبارة.. وأخصر فكرة.. وأكثر تقبلا.. أما شعره الطويل فإنه يجهد قارئه لأن بحره مزيج من مكونات لغوية.. ومفردات تحتاج إلى تفسير.. بل وإلى تغيير من أجل خدمة الأساس البنائي للقصيدة.
وأحسب أن شاعرنا وقد أجاد في قصائد غزله.. القادر على صياغة مقطوعات شعره الطويل صياغة جديدة تزيل عن كاهلها بعض الارتباك في لغتها.. وفي إيقاعها الشعري.. شكراً لمعيض الذي عوضنا خيراً قرأناه معه أخيراً.


الرياض ص.ب: 231185
الرمز: 11321 - فاكس: 2053338

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved