الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 27th February,2006 العدد : 142

الأثنين 28 ,محرم 1427

الظلام يستيقظ
......... عبد الواحد الأنصاري
أشتدّ به الألم فلم يقوَ على البقاء مضطجعاً. وبما أنّ الحركة كانت ملتجأَهُ الأخير عندما يدهمه الوجع فقد لجأ إليها، خرجَ من البيت الطينيّ بعينينِ زائغتين ووجهٍ مربدّ وبفمٍ مطبق الفكّينِ وكأنهما طوبتان متماسكتان. غاب عن إدراكه أنّ مرجعه الأخير سيظلّ منزله، كما غفل عن هذا الأنين الصادر عنه في لوعة وكأنه هيامُ ناقةٍ جرباء، ومن خلف خصاص البيوت الواطئة أطلّت عيون متطفّلة أيقظتها أسماعها المنزعجة، فهموا أن هذه من الليالي التي يوقظه فيها ألمه ويهيم على وجهه مصدرا أصواته التي لا يتحكم بها ولا يسمعها، عاد المتطفلون إلى فرشهم، وهدهدوا الأطفال المفزوعين وطمأنوا عجائزهم المفزوعات هامسين:
- لا شيء، فقط هذا المسكين أيقظه ألمه.
وعادوا إلى ألحِفتهم مطمئنّين.
أما هو فقد شطّ به السير، وساقته أقدامُه إلى حيث لا يدري. الطنين المؤلم يطمس في هيجانِه كل المرأي وكلّ المسموع وكل الملموس، وخطاه الآن تشبه له خطىً تدرج في المنام، اصطدمت رجله بحجارةٍ في الطريق فدحرجتها، هو نفسه كان يرسم خطوات متعرجة ومتدحرجة يمكن لها أن تحيّر كلّ من يبصرها، ولو أنّ هذه النوبات تصيبه في النهار وليس في الليل لأحدثت أثراً كبيراً في ذاكرة الحركة الجمعيّة للقريّة، لكنّها التزمت على الدوام بهذه الصيغة التي تضيف إلى هيامه أسى غفلة الناس ووحشة الليل.
مضى يهيمُ وصوتُه يتقعّر في جوف الليل حتى كأن حنجرة الليل هي التي تطلقه، ومضت خطواته تخمش وجه الأرض حتى يكاد الماء ينبع من أسفلها وكأن مياهها الجوفية تجاوبه، وبدا جديّاً أنّ مسارب الأودية السحيقة والشعاب البعيدة تردد صداه، السماء نفسها دنَت من الأرض واكتسبت نجومها خاصية التحديق عِوَضاً عن اللمعان البارد، وبينما هو غافل عن العالم بدأ الظلامُ يستيقظ، وبدأت البهائم تفهم ما يجري وتشعر بالقلق وكأنّ كارثة على وشك الوقوع، وهدأ الهواء تماما وكأنه يريد أن يسجّل شهادته بدقّة عمّا يجري، اضطربت الهوامّ وخرجت الأفاعي والعقارب من جحورها، وتصاعدت خشخشتها في ممرّات القريّة وفي شقوق حيطان بيوتها وتحت فتحات أبوابها.
أما هو فما زال الألم يتمادى بين أذنه وفكّه، كقبضة شوكية مسنّنة تحتل موضعا ضيقاً من رأسه، وما زال مشغولاً بضجيجه عن ضجيج الكون وانقلابه رأسا على عقب، وصل بلا شعور إلى سدرة عظيمة كانت متسلَّقاً يلعب عليه في صباه، صعد عليها بكلّ خفّة وكأنه يرمش بعينيه، واستقرّ به المقام بين غصنين مارديْن من أغصانها، وهناك مدّ يده الخشنة المرتعشة ليقبض على حفنة من أوراق الشجرة ليقطعها، باعد بين فكيه الملتصقين ومضى يمضغ ما في فمه وهو لا يشعر بلذعته ومرارته، مضى يقطع ويلوك ويبتلع حتى التهمّ كلّ ما وصلت إليه يدُه، وحتى أصبحت الأغصان في دائرة سيطرته جرداء تماما كأن لم تورِقْ من قبل، وهنا هدأت ثائرته قليلا تحت تأثير تلوّي جوفه ورغبته العارمة في القيء، وفي ضباب غثيانه تصادتْ في مسمعه المقترحات التي كان أهل القرية يتفنون في اختراعها ليظهروا له إهتمامهم بصحته:
- ابحث عن رجل حاذق يشق فكّك ويزيل هذا الورم الأسود منه.
- احذر من الحليب، وتناول اللحم الأحمر المسلوق.
- لا شيءَ ينفع الآلام المنتفخة في الفم والأذن والضرس مثل بول النوق.
- لا تغسل وجهك بالماء، ولا تتعرض للهواء البارد.
- جرّب أن تسحق القهوة وتشقّ في وجهك جرحاً صغيراً وتصبها فيه.
وفي القرية دبّ كل شيء ليؤذيَ ما حوله، فتناطحت التيوس وانقضّتْ ذكور الجِمال ليهشم بعضها رقاب بعض، وتصادى صياحُ الديكة متواكبا مع نهيق الحمير، وانسلّت العقارب والثعابين المهتاجة لتلدغ من في المراقد، وبينما النائمون والملدوغون يقفزون مرعوبين من مراقدهم الدفيئة كان مطوّع القرية يرى نفسه في المنام كأنه في الحجّ وأمواج الحجّاجِ تطؤه بأقدامها أثناء محاولته للوصول إلى مرمى الجمرات، أفلتت الحصيات الإحدى والعشرون من يده وانسلخ عنه لباسه وتثاقلت أنفاسه ثم سمع قرقعة صدره وهو يتهشّم وأيقن بالموت، لحظتَها اخترقوا مخدعه وأيقظوه فرآهم مجتمعين أمام بيته بعضهم في نصف ثيابه وبعضٌ آخرون في ثلاثة أرباع ثيابهم.
لحظتها، وفيما هو مستسلم لرقاده العميق، أحسّ بصوت يخالسه بأن ألمه سيبارحه إلى الأبد، وشهق شهقة عميقة، لفظ بعدها ما في جوفه من عصارة ورق سدر أخضر وحموضة ولعاب عفن، وسقط من أعلى السدرة العظيمة على وجهه، وانتصب جالسا في زمن يقدر بثوان معدودة، ثم عاد منكفئا على وجهه، وشيئا فشيئا تلاشت سحابة الغبار الخفيفة من حول جسده الممدد والملطخ بمادة خضراء غريبة عطنة لا تزال بقايا رطبة وحارّة منها، على شفتيه وبين أضراسه، وعاد المنظر هادئاً صامتاً صافياً، ومحايداً.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved