الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 27th February,2006 العدد : 142

الأثنين 28 ,محرم 1427

تحول
............... العباس معافا
وكأن أمرا سيرني إلى هناك، عبرت الوادي حاملا سلة ذكريات بليدة، لم أعد آلف المكان ربما لاختلاف الزمانين، حاضري وما امتلأت به سلتي من ماض، عبرت الوادي مع نظرات أول (عرج) أقترب منه، وجوم غريب لم أجذه قابعا حينما فتشت في سلتي.
حقيقة كان هنالك ما حركني، بمجرد ميل الشمس عن منتصفها شعرت برغبة تدفعني للذهاب إليها، وكأن شيئا سيحدث، وما كانت رغبتي إلا محركا لي، الوجوم المطبق على هيئة العروج يثيرني، هدوء غريب، كأن الجمع يودي نسكا لا كلاما ولا حركة خلاله.
لا أذكر كم سنة مرت على آخر زورة لي إلى هناك، أذكر السنوات التي كنت لا أنقطع فيها ولو ليوم عن حضرة العروج، سلة ذكرياتي مليئة بتلك الأيام.
حين توقفت لأستريح تخيرت مكانا تملؤه ذكرى، جلست متأملا الحياة التي كنت آلفها، يوم كنت ألهو مع أي عرج؛ يوم كنت أتلمس أني منهم وفيهم، اليوم أنا بعيد عنهم كل البعد.
لا يزال الوجود مطبقا على العروج، وكأنها لا تريد أن تمنحني شيئا مما كنت أجده لديها قبل زمن، أو هناك ما أعلمه، لحظات طويلة مرت، وأنا أترقب ما حولي، كل شيء تبدل؛ كل شيء على غير هيأته التي كنت أراها فيما مضى، حتى العروج التي لا تفتأ في حركتها تأبى اليوم الحراك كأنها موات، الطيور لم تعد تحط عليها كأن هناك ما يفزعها، وقد كانت ملاذها الوحيد، لم أعد أدرك أي شيء، أشعر أن هناك ما يحاك، أهو ضدي؟ قمت من مكاني سائرا بخطى بطيئة، واجهت عرجا منها، بكلتا يدي هززته، تساقطت بضع وريقات يعتريها وهن واصفرار، كنت حين أهزه سابقا تتساقط علي أوراقه ندية رطبة باخضرار، لم يعد هناك من يحترمها، ما آلت إليه لم يكن إلا بسبب إهمال الجميع لها، لم يعد هناك من يعتني بها، لا أحد..!!
عدت لمكاني الأول واقفا، فاجأني صوت صادر من عرج توسط مجموعة العروج التي تحيط بي، صوت قطع الصمت المطبق، فزعت منه بيد أنني تماسكت، اندفع في اللحظة ذاتها صوت يحادثني، أكثر تماسكا وقفت متحسسا مصدر الصوت، لحظتها انفرجت اهتزازات متتابعة من أجساد العروج ضحكات وكأنها تهزأ بي، قلت بصوت عال وكأني أصرخ على أحدهم: ماذا تريد مني؟
انفرج نفس العرج الذي أصدر الصوت الأول عن لغة أجهدتني حتى فهمتها: أنت الذي ماذا تريد منا؟
قلت: لا شيء، جئت أجدد ودا قديما.
قال: مع من؟! وهل كان هناك ود؟!
قلت: بيني وبينكم ود جئت أتعهده.
تعالت صيحات استنكار من حديثي.
قال: كم مضى على هذا الود؟ وهل اخترت الوقت المناسب لرعايته؟
قلت: زمن طويل مضى ولا أدري هل هو الوقت المناسب أم لا.
قال: نحن ننتظرك منذ زمن، ما زلنا نذكرك صغيرا، نذكر رعايتنا لك، أنتم البشر لاترعون ودا فيما بينكم، كيف جئت لترعى ما تدعي أنه بيننا؟
قلت: بل جئت وبي حنين لكم دفعني إليه هاجس.
قال: سنوات مضت ولم تذكرنا إلا الآن..!!.
تعالت حينها صيحات أكثر استنكارا، كأني ماثل أمام محكمة متهما بذنب، واقف بينهم، هم حولي، منهم من يمثل القضاء، ومنهم من يمثل الحضور، وذلك العرج يمثل المدافع عنهم، كل من حولي أتى مطالبا بأمر ما.
قلت: نعم سنوات كنت فاشلا في تفسير كنه الصلة بيني وبينكم، كنت أفسره كرها لكني أيقنت بعدها أن حبًّا هو ما يتملكني تجاهكم.
قال: أتعتقد أن سنوات مدة قليلة لتفسير ما تشعر به؟
قلت: أنتم ترونها كثيرة، لكني لم أدرك أنني أمضيت عمرا في تفسير شعور طالما أقلقني.
قال: وهل تطلب منا أن نصدقك الآن؟.
قلت: إنها الحقيقة، لم آت لهنا إلا بعد أن تأكدت أن حنينا يزحف بي إليكم.
شرع الجميع في هرج لا أدرك فحواه كأنهم يتشاورون في مصيري، أنا واقف أفكر في كنه الذي بعثني إلى هنا، أكان باعثا منهم كي أكون في حضرتهم؟ أأكون المتهم الذي لا يدرك تهمته؟ يا الله!! مؤلم أن نعاقب على ما لم تدرك أننا اقترفناه.
قطع صمتي قائلا: إن الجمع ليس مقتنعا بما أدليت به من قول، الجميع يطلبون أدلة تقنعهم.
قلت: ماذا أقول؟ أأقول: إنني عشت عمرا أبحث عن هويتي؟ أأقول: إنني فررت متلمسا في الحياة كنها لي؟ أأقول: إنني ما آنست في ماضي اتصالا بيني وبين ما حولي؟ ماذا أقول بربكم ماذا أقول؟
قال: لا تقل شيئا، نحن اليوم من سيقول.
انخرط الجمع في لغطهم، أنا واقف اتخبط في صمتي، هم من سيقرر، ليس لي حيلة إذن.
قال: إن الجمع يريد منك أن تثبت لهم حقيقة ما تضمه بين جنبيك، لن نقول لك ماذا سيحدث لن نقول..
عاد الجميع لصمتهم الأجوف مرة أخرى، فجأة سمعت صوتا مسترسلا على وتيرة واحدة من الجميع (عرج.. عرج.. عرج)، مع استمرار الصوت شعرت بجسدي يعلو رويدا رويدا، يصعد إلى السماء، أصعد وأهبط، لا تصل قدماي إلى الأرض، عائما بقيت، شعرت أن هناك ما يحاك من تحتي، فكرت مليا، لم أعد أملك حتى لغتي، مشدوها وقفت متأملا الأصوات المتواترة تصيح (عرج.. عرج.. عرج)، أحسست أن هناك ما يصعد من باطن الأرض، وكأني به يمتد بين أوصالي، وكأني أشعر بشيء يسترسل بين عروقي، أشعر بأني أنسلخ مني، أحس أن هناك من يسحبني للأسفل، هامتي تمتد إلى الأعلى، أشعر أني أمتد.. أني أتشعب، ما زالت الأصوات تتخلل تشعبي وأنا أتحول، لم أشعر إلا وأنا أصرخ معهم (عرج.. عرج.. عرج).
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved