Culture Magazine Monday  27/08/2007 G Issue 213
نصوص
الأثنين 14 ,شعبان 1428   العدد  213
 
شاهدة قبر من دموع الكلمات
إلى روح أمي طيّب الله ثراها
يحيى السماوي

 

 

(1)

ليَ الآنَ

سَبَبٌ آخر يمنعني من خيانةِ وطني:

لحافُ ترابِهِ السميك

الذي تَدَثَّرَتْ به أمي

في قبرها أمس!

(2)

وحدَهُ فأسُ الموتِ

يقتلعُ الأشجارَ من جذورها

بضربةٍ واحدة

(3)

قبل فراقها

كنتُ حيّاًً محكوماً بالموتِ..

بعد فراقها

صرتُ مَيْتاً محكوماً بالحياة

(4)

لماذا رحلتِ

قبل أنْ تلديني يا أمي؟

أما من سلالمَ غير الموتِ

للصعود نحو الملكوت؟

(5)

في أسواق (أديلايد)

وَجَدَ أصدقائي الطيبون

كل مستلزمات مجلس العزاء:

قماش أسود.. آيات قرآنية للجدران..

قهوة عربية.. دِلالٌ وفناجين..

بخورٌ ومِسْكٌ..

باستثناء شيءٍ واحدٍ:

كوب من الدمع حتى ولو بالإيجار

أعيد به الرطوبةَ

إلى طين عينيَّ الموشكتين علىَ الجَفاف!

(6)

لم تحملْ نعشَها عربةُ مدفع

ولم يُعزف لها مارشٌ جنائزي..

أمي القروية لا تُحِبُّ سماعَ دويِّ المدافعِ

نعشُها حَمَلَتْهُ سيارةُ أجرةٍ

وشيّعَتْها عيونُ الفقراءِ

والعصافيرُ

وكثيرٌ من اليتامى

يتقدمهم شقيقي بطرفهِ الاصطناعي

وشقيقتايَ الأرملتان...

يتبعهم

جدولان من دموعي

(7)

كيفَ أغفو؟

سَوادُ الليلِ يُذكِّرُني بعباءتها..

وبياض النهارِ يُذكِّرني بالكفن..

يا للحياة من تابوتٍ مفتوح!

أحياناً

أشعرُ أنَّ الحَيَّ ميتٌ يتنفَّسُ..

والمَيْتَ حيٌّ لا يتنفَّس..

(8)

الأحياءُ ينامون فوق الأرض..

الموتى تحتها..

الفرقُ بينهم: مكانُ السريرِ

ونوع الوسائد والأغطية!

(9)

آخرُ أمانيها:

أنْ أكونَ مَنْ يُغمضُ أجفان قبرِها..

آخرُ أمنياتي

أن تُغمِضَ أجفاني بيديها..

كلانا فشلَ في تحقيق أمنيةٍ متواضعة

(10)

أيها العابرُ: لحظةً من فضلك..

هلا التَقَطْتَ لي صورة تذكاريةً مع الهواء؟

وثانيةً مع نفسي؟

وثالثةً عائلية

مع الحزن والضجرِ

وأمي النائمة في قلبي؟

(11)

سُبحانك يا رب!!

أحقّاً أنَّ عذابَ جهنمَ

أشَدُّ قسْوةً من عَذابي

حين تَعَذرَ عليّ توديعُ أمي؟

آهٍ... لو أنَّ ساعي بريدِ الآخرةِ

قد وضعَ الرسالةَ في صندوق عمري

لا على وسادة أمي..

يتعيّن عليَّ من الآن

المزيد من التقوى

كي يرزقني الله

برؤية أمي في فردوسه

(12)

أشقّائي غطّوها بلحافٍ سَميكٍ من التراب..

ربما

كي لا تَسْمعَ نحيبي

وأنا أصرخ في البريّة

ِمثلَ طفلٍ ملدوغٍ: أريد أمي..

فتبكي..

(13)

لسْتُ ثَمِلاً..

فلماذا تنظرونَ إليَّ بازدراءٍ

حين سقَطْتُ على الرصيف؟

مَنْ منكم لا ينزلقُ مُتَدَحْرِجاً

حين تتعثَّرُ قدماه بورقةٍ أو قطرةِ ماءٍ

إذا كان يحملُ الوطنَ على ظهْرهِ

وعلى رأسِْهِ تابوتُ أُمِّه؟

(14)

يا كلَّ الذين أغضْبْتُهم يوماً

من أصدقاء طيبين.. ومجانين.. وباعة خضراوات..

وطلبةٍ.. وزملاءِ طباشيرَ.. ورفاق منفى:

ابعثوا إليَّ بأرقام هواتفكم..

فأنا أريدُ أن أعتذرَ منكم

قبل ذهابي للنومِ

في حضنِ أمي

(15)

وأنتم أيها الهمجيون

من متحزِّمين بالديناميت.. وسائقي سيارات مفخخةٍ..

وحَمَلَةِ سواطيرَ وخناجرَ:

كفى دويَّ انفجاراتٍ وصخباً..

إنَّ أمي لا تحبُّ الضجيج..

الطيبة أمي ما عادت تخاف من الموت..

لكنها

تخاف على العصافير من الشظايا..

وعلى بخور المحراب من دخان الحرائق

(16)

حين أزور أمي

سأنثر على قبرها قمحاً كثيراً..

أمي تحب العصافير..

كل فجرٍ:

تستيقظ على سقسقاتها..

ومن ماء وضوئها: كانت أمي

تملأ الإناء الفخاريَّ تحت نخلة البيت

وتنثر قمحاً وذرةً صفراء

(17)

في صِغَري

تأخذني معها إلى السوق.. وبيوت جيراننا..

حتى وأنا في مقتبل الحزن

لا تسافرُ إلا وأنا معها..

أنا عكّازها وفانوسها..

لماذا إذن سافرت وحدها نحو الله؟

ربما

تستحي من ذنوبي..

آهٍ

من أين لي بأمٍ مثلها

تساعدني في غسلِ ذنوبي

بكوثر دعائها

حين تفترش سجادة الصلاة؟

(18)

يا أحبّائي الطيبين

لا تسألوا الله أن يملأ صحني بخبز العافية..

وكوزي بنمير الانتشاء..

فأنا الآن بحاجة إلى:

صَبْر رمال الصحراء على العطش..

وتجَلُّدِ بغلٍ جبليّ..

وبلادة خروف..

ولا بأسَ

من خيط جنونٍ

أخيط به جرح عقلي

(19)

لم تكن أنانيةً يوماً..

فلماذا ذهبت الى الجنةِ وحدها

وتركتني في جحيم الحياة؟

(20)

مُذ ماتت أمي

لم أعُدْ أخاف عليها من الموت..

لكنها قطعاً:

تخاف الآن عليَّ

من الحياة

(21)

رباه:

أريدُ أوراقاً من ماء..

لأكتب عليها

كلماتٍ من جمر..

(22)

حين مات أبي

ترك لي (فاتورة كهرباء)...

حين مات ولدي

ترك لي بدلة العيد الذي لم يعشه

.............

.................

وحين ماتت أمي

تركت لي عباءتها

سأتخذ منها سجّادةً للصلاة..

أما أنا؟

فسأترك لأطفالي

قائمةً طويلةً

بأمنياتي الكثيرة

التي لم تتحقق واحدة منها...

منها مثلاً:

أن يكون لي وطنٌ آمنٌ

وقبر

16-8- 2007 أستراليا - أديلايد


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة