Culture Magazine Monday  28/05/2007 G Issue 200
فضاءات
الأثنين 11 ,جمادى الاولى 1428   العدد  200
 

على مائدة الشيخ التويجري (11)
الدكتور عيد بن مسعود الجهني

 

 

قلنا إن في داخل الشيخ عبد العزيز التويجري بدوياً قابعاً، لم تستطع كل مستجدات العصر أن تزيحه أو تهزمه أو تغير ملامحه الصارمة الصادقة، لم تستطع المدينة أو قل المدنية بكل بهرجتها ووسائل الدعة فيها أن تستهوي الشيخ التويجري وتنسيه أيام البداوة ببساطتها وأصالتها، فهو وإن كان يعيش في قصر فهو في شوق دائم للخيمة، وإن كان يركب سيارة فارهة فهو في حنين لركوب ظهور الجمال، وإن كان يستطيع أن يأكل أفخر الطعام وأطيبه فإن نفسه تتوق إلى حليب النوق حارا من الضرع، وإذا كان تكييف الهواء في بيته ومكتبه وسيارته يقيه حر الصيف وبرد الشتاء فإن كل خلية من خلايا جلده في شوق لمداعبة سموم صيف الصحراء وزمهرير شتائها.

الشيخ عبد العزيز التويجري إذن مغرم بالصحراء مرتبط بترابها، يكن لها حبا خالط لحمه ودمه، ولو أنك قرأت الشيخ التويجري دون أن تعرف عنه شيئا لتوصلت دون عناء إلى أنه عاش في الصحراء وأحبها وارتبط بها وأنه عالم بأسرارها وخباياها.

يقول الشيخ التويجري في كتابه (ذكريات وأحاسيس نامت على عضد الزمن): (ولا أعرف، والأوراق تتململ في لحظتي هذه تململ الخائفات على خيمة البدوي، التي أرادها سترا لهن من إعصار العصر وفوضاه، أفي إمكاني تنظيم قوافل الذات وشدها بالأخطمة لتمشي في نظام كنظام الأفلاك؟ أحاول ذلك، ولكن ما الإنسان وما الأفلاك؟ الأفلاك لا حرية لها غير قانونها الذي قيل لها: سيري عليه وأطيعي، الأفلاك لا تمارس معصية ولا خطأ فقد هربت من الخطايا والذنوب وأشفقت من حمل الأمانة التي حملها الإنسان، أما الإنسان فهو الذي يملك اختياراته في الخير والشر).

ففي مثل هذا النص يظهر الارتباط العاطفي الوثيق بين الشيخ والصحراء، وهذا الارتباط هو الذي جعله يستخدم تلك المفردات الخاصة بالصحراء مثل (خيمة البدوي) (إعصار) (قوافل) (الأخطمة) ولا شك أن البيئة التي يعيش فيها الكاتب أو الشاعر تؤثر عليه وتثري مفرداته، وقد يقول قائل: ولكن البيئة التي يعيش فيها الشيخ هي المدينة بصخبها وضجيجها وعمارتها وسياراتها وطرقها الحديثة، وحسب ما قلت كان يجب أن تكون مفرداته من هذه البيئة التي يعيش فيها، ونرد على هذا القائل فنقول: إن الشيخ يعيش في المدينة بجسده ولكن روحه تضرب خيامها في بوادي الصحراء، ونفسه تهيم في بواديها وأوديتها ووهادها، لذلك تجيء مفرداته من المكان الذي تعيش فيه روحه وتهيم فيه نفسه.

وفي نص آخر يقول في الكتاب السابق نفسه: (ليت للحالمين والحالمات بالجمال عالما خاصا لا تكدره ذئاب الجبل..!! ويا ليت الأمنيات والأحلام ساكنت أفلاطون في مدينته وبنت خيامها، خيام البدويات، لليلى وبثينة، ولم تفارق تلك المنازل التي تخيلها فيلسوف أثينا وبناها من مخيلته!!).

وفي هذا النص أيضا نجد مفردات كثيرة من الصحراء مثل (ذئاب الجبل) (بنت خيامها) (البدويات) وفي الكتاب نفسه يجيء النص التالي:

(ليتني أستطيع أن أحلب من ضرع ذهني صورا عطشى إلى زيارة الورق! نعم ليتني أملأ قدحي منه مثلما كنت أملؤه من ضرع ناقتي! ولكني بدوي لا أحسن الحلب من ضرع ذهن لم تدربني عليه المعرفة وتأخذ بيدي إليه وتقل... بدوي جاء يتساءل: أذهني خواء لا وجود فيه لمتسائل ومتسائلة وعاشق وعاشقة من أهل الحي الذاتي إلى أن يكون لهم ورق يكون لهم مواليد ذهنية؟).

وفي هذا النص أيضاً كلمات وتعابير تؤكد أن الشيخ لم ينفصل بعد عن الصحراء بروحه ووجدانه وإن بعدت بينها وبينه المسافات فانظر إلى قوله (أحلب من ضرع ذهني) وقوله: (مثلما كنت أملؤه من ضرع ناقتي) بل إصراره أنه مازال ذلك البدوي القح الذي لم تغيره الأيام ولم تبدله الحوادث ولم يأخذه بعد المسافة عن حضن الصحراء الدافئ حيث يقول: (ولكني بدوي لا أحسن الحلب من ضرع ذهن لم تدربني عليه المعرفة).

إن الشيخ عبد العزيز لا يزال يعيش في الصحراء، لأن نفسه رفضت المدينة رغم ما فيها من وسائل الراحة والرفاهة، والسبب في ذلك أنه لم يجد السعادة في المدينة رغم كل ما فيها من أسباب الراحة، ووجدها - أي السعادة- في الصحراء، ذلك أن روحه الشفافة تعلمت أن تجد السعادة منذ كان صغيراً في المعاني لا في المباني، في الأحاسيس الراقية والعواطف النبيلة وليس في مظاهر الأشياء ومتعة اللحظة الفانية التي لا تستقر في الروح وتتخذ منها وطنا.

(لي تجربة نسبية فيما بين يومي الأول الذي كنت فيه أفرح إذا ملكت عشرا من الضأن أو بعيرا أو بعيرين، أو نخلة أو نخلتين، وبين يومي هذا الذي بنى لي فيه النفط قصرا وأدخل فيه من الأشياء ما أنساني نومي على حصير من سعف النخيل، أو على كثبان من رمال الدهناء وألهاني عن الخيمة والصحراء والربيع ونجوم السماء، وشم نسيم الصبا أنساني أشياء كثيرة وبسيطة، أنساني فرحي وسعادتي).

الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة