Culture Magazine Monday  28/05/2007 G Issue 200
فضاءات
الأثنين 11 ,جمادى الاولى 1428   العدد  200
 
مساقات
(فِتْنَة): البيئة الروائية! (5 : 7)
د. عبد الله الفَيْفي

 

 

1- كُتبت في العقود الأخيرة روايات مختلفة عن المملكة العربية السعودية من راحلين، أو زائرين، أو متعاقدين للعمل، أقاموا فترات، نشأتْ لديهم خلالها انطباعاتٌ أو مواقف - ربما كانت بعضها شخصية - أسهمت في تشكيل رواياتهم، فضلاً على توجّهاتٍ فكريّةٍ جعلتْ لهم في الرواية مآرب أخرى! وعلى تباين المستويات الفنّيّة، والأهداف الفكريّة، في تلك الروايات، ما اندثر منها وما انتشر، فقد ظلّ بعضها يُكرّر بعضًا، في أنساق متشابهة، من ظاهر النقد، وباطن الندب، والتشويه، للإنسان والمكان، إمّا لجهل أو لأغراض أخرى.

ولا ريب في أن النقد مهمّ، وكشف التقصير واجب، حيثما وَقَع، وممّن وَقَع، وتصحيح المعوجّ ضروريّ، مهما كان. إلا أنه حين لا يرى كاتبٌ سوى السلبيات المزرية - فينفخ فيها ما شاء، وكأنْ ليست هناك إيجابيات البتة - فإن القارئ ليقف متسائلاً: لماذا؟ وما مسوّغ ما لا مسوّغ له لدى هؤلاء، إنْ من الناحية الفنّيّة، أو من حيث مصداقيّة الكلمة وأمانة التصوير؟

نحن نعلم أن السعودية أرض شاسعة، فيها المدن، والقُرى، والهِجَر، والصحارى، والجبال، وأماكن قد لا يصلها حتى الطير! كما نعلم أن هناك مِن الناس مَن ظلّوا يرفضون مغادرة أماكنهم النائية، بل ما زال في بعض شرائح منهم نزوعٌ إلى التوحّش والتصحّر وانتباذ المجتمع البشري، ولا نقول المدنيّ فقط، وفيهم من يحارب فعليًّا أو نفسيًّا مظاهر التحضّر، حالِمًا بعدم تحويل مجتمعه إلى غير ما أَلِف واعتاد! بل نعلم أنه حتى في المدن الكُبرى في المملكة هناك انبعاثٌ عشوائي في العمران، بما أن مفاهيم التوطّن ومراعاة ضرورات المجتمع المديني الحديث ما زالت غريبة عن وعي بعض الفئات. أفنأتي إلى نقطة قصية في البلاد، فنوسّع صورتها لنقول: هذه هي السعودية، أو هذه هي منطقة كذا في السعودية؟!كما أنه يُمكن لكل منصفٍ أن يُدرك أن جبال السروات وصحارى الجزيرة، ليست كشواطئ البحار ورمال الخلجان، لا جُغرافيًّا ولا تاريخيًّا، ولا حتى مُناخيًّا. ويمكن لكل عاقلٍ منصفٍ أن يعي أن القضية الحضاريّة - في نهاية المطاف - ليست بتلوين المباني القوارير ورصف الشوارع، على أهمية ذلك، ولكن القضية الحضاريّة بالإنسان نفسه، فهو جوهر التنمية الحقيقيّة.

أفلا يرى أولئك المثقفون مكانة الإنسان السعوديّ، وإلى أين وصلتْ مقارنة بشقيقه الخليجي أو العربي، عِلْمًا، وأدبًا، وفِكْرًا، وفنًّا، وعطاءً على شتى الأصعدة، على الرغم من الفارق الهائل في الظروف الموضوعية والتاريخية، التي لا تخفَى على أحد؟! فمن أين جاء ذلك كلّه؟!

بعضهم لا يرى الجامعات السعوديّة، ولا المدن الطبيّة والعلميّة والتقنيّة - وطموحها ما زال أكبر من واقعها - وإنما ينتقون مظهرًا جزئيًّا معزولاً هنا أو هناك، ليبدو ما عداه هباء منثورًا في موازين تطفيفهم! أوليس الإنسان في تعليمه وتحضيره هو الأهمّ، أم الأهمّ أن يُلبس المواطن الجديد ويُغدق عليه المال، وهو غارق في بداوته وتخلّفه وجهله، يعيش على جيبه، لا على عمله وإنتاجه وعقله، ليصبح هناك (نموٌّ بلا تنمية)، أي: خدميّات قائمة على أكتاف الأجنبي مع عجزٍ في الموارد البشريّة الوطنيّة؟ وماذا عن المرأة السعوديّة؟

تُرى هل تحضّرها يكمن في أن تكشف عن رأسها أم في أن تكشف عن عقلها؟!

فلتقارن المرأة السعودية بالمرأة العربية، خليجيّة أو غير خليجيّة، في مجال الطبّ، والعلوم، والأعمال، والأدب، والكتابة، والفكر، والثقافة، والفنون، لتتضح الفوارق النوعيّة الحقيقيّة، لا الشكلانيّة؟

ولسنا هنا في مقام تلميع، أو مفاخرة، أو اعتذار، ولا في منبر دفاع عن تقصير، فأماكن مختلفة في المملكة تأخرت التنمية عن وصولها، أو لم تصلها بعد بالمستوى المنشود. لا نكران لهذا، ولا تنازل عن المطالبة به والسعي إليه، لكننا نقول لمن يريد النقد الموضوعي الصادق، وإنْ من خلال عملٍ سرديّ: (إن الله يأمر بالعدل)!

ولذا، فإن تلك المضامين الوصفية المجحفة التي حوتها تلك الزُّمَر من الروايات - بيئويّة، واجتماعيّة، وثقافيّة، وإقليميّة - بدت من ثغراتها، لا من وُجهة الأمانة في تصوير الواقع فحسب، ولكن من حيث بناؤها الفنيّ كذلك.

2-وما نقصد إلى القول إن رواية (فِتْنَة)، للكاتبة أميرة القحطاني، (بيروت: دار العلم للملايين، مارس 2007) - التي تحدّثنا عنها عبر هذه المساقات - قد وقعتْ بشكل صريح في ذلك الذي ذكرناه أعلاه، وإن كانت بطلتُها قد قاربتْ ما يستدعي إلى الذاكرة بعض مضامين تلك الأعمال المشار إليها، وذلك في مصادرات ومبالغات جزئية، ربما جاءت عبر خيانة تعبير تارة أو تباين تقدير تارة، أو ربما أُلقي وزرها على بطلة الرواية نفسها، وتردّي حالتها النفسيّة، من حيث بات الوصف جزءًا من حالة رفضها، ومواقفها السلبيّة من مجتمع أبيها وبيئته، ممّا جعلها لا ترى من الأشياء إلاّ ما تَكْرَه. وتلك حالة مختلفة خاصة. وإنْ كانت قواعد اللعبة الروائية لا تُعْشِي القارئ عن إدراكِ أن بطل النص الروائيّ هو من خَلْق كاتبه في النهاية.

على أننا قد أشرنا في المساق السابق إلى أن النصّ - لأمر ما - لم يشأ تحديد القرية أو الهِجْرة من عسير التي تنسب فِتْنَةُ إليها بعض القِيَم الاجتماعية التي عرّجت عليها، كمسألة الحُب والزواج من ابنة العمّ، وإنما كانت الإشارة ترد إلى حيّز جغرافيّ مترامي الأطراف. وكذلك يمكن أن يرى القارئ في تصوير فِتْنَة المرأةَ الجنوبيّةَ تناقضًا، ومبالغات، وتعميمات، أُتيَ العمل فيها كذلك من الباب نفسه، من الحُكْم على منطقة كاملة بالسّماع، أو من خلال قرية نائية معزولة فيها، لها ظروفها. وذلك كأنْ تروي فِتْنَة: إن المرأة هناك كالبهيمة، تُباع، وتُشترى، وتُهدَى، وهي تُزوّج صغيرة من كَهْل دائمًا، (أكَلَ من (القُرص) ومَسَحَ بقايا السَّمن المتبقّي بيده في لحيته الحمراء المتنافرة)! (ص69). على حين تذكر في مكان آخر من النصّ أن المرأة في تلك المنطقة محترمة كالرجل! فأي الصورتين صحيحة؟ لا هذه ولا تلك، ففي كلتيهما مبالغة! ليست المرأة كالبهيمة، بطبيعة الحال، فهذا غلوٌّ في المبالغة، وليست المرأة في المقابل كالرجل، فهذا تضخيم مسرف. ولعلّ وراء هذه المبالغات - إلى جانب ضبابيّة معرفيّة أو قِدَم معلومة - دافعيّة انتصار فِتْنَة للمرأة، نتيجة إحساسها المتراكم بظلم أبيها لأُمّها، وإيحاء الأمّ إليها بذلك منذ الطفولة. إلا أن ذلك قد أوقع الوصف الاجتماعي في إطلاقات، لا تطابق الواقع في عمومه، ولا طبائع الأمور في تنوّعها؛ إذ لا يمكن بحالٍ إرسال أحكام شمولية كتلك على منطقة كاملة من خلال خِبْرَة ضحلة محدودة بالمجتمع، أو ممارسات فرديّة لشخوص، أو أعراف جزئيّة لأُسرة أو عشيرة أو قبيلة.

حريّ بالتأكيد هنا أن شخصية فِتْنَة ليست بِدْعًا فيما تنقله إلينا من خلال نموذجها من تصوّرات اجتماعيّة شائعة. بل لقد كانت الكاتبة صادقة في تشكيل ذهنيّة بطلتها على تلك الشاكلة، فما فِتْنَة - في المحصّلة - إلا ابنة بيئة كتلك، لا باحثة اجتماعية، ولا عالمة أنثروبولوجيّة، لا هي ولا من قدّمتها شخصيّةً روائيّة. إلا أنه، بتحليل ثقافي - ومهما بلغتْ نِسَب الاختلافات الفعليّة بين عادات القبائل في الجزيرة والخليج - يتبيّن أنها واقعيًّا متقاربة إجمالاً، بما هي تمتح من أصول إرثية واحدة، مغرقة في القِدَم، ومن ثقافة عامّة مشتركة. فالمرأة - على سبيل المثال - ونظرة المجتمع إليها، لا تختلف كثيرًا، إلا ظاهريًّا، في مختلف أجزاء الجزيرة، إن لم نقل مختلف بلاد العرب. إذ ما الذي يَحْكُم غالبيّة سلوك المجتمع العربي في النهاية؟ أليست الأعراف القَبَليّة، أكثر من أي شيء آخر؟

وفي المساق الآتي مزيد تفصيل حول نموذج فِتْنَة الاجتماعي.

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244

* (عضو مجلس الشورى) الرياض aalfaify@yahoo.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة