Culture Magazine Monday  28/05/2007 G Issue 200
فضاءات
الأثنين 11 ,جمادى الاولى 1428   العدد  200
 

صدام الثقافات في فرجينيا
فؤاد السعيد

 

 

لا يقتصر صدام الثقافات والحضارات على المستوى الفكري والسياسي والعسكري فقط، كما قد يظن البعض، بل انه أصبح حاضرا وبكثافة خلال السنوات الأخيرة على المستوى الاجتماعي أيضا، حيث أصبح بمثابة المكون الثقافي الخفي وراء الكثير من القضايا والظواهر الاجتماعية، بل ان العديد من القضايا والأحداث السلبية يتم تحويرها واعادة انتاجها وصياغتها ثقافيا واعلاميا بهدف ازالة المسؤولية عن ثقافات معينة والصاقها بثقافات أخرى، وربما كان المثال الأوضح على ذلك حادث إطلاق النار الأخير في جامعة فرجينيا والذي قتل فيه ثلاثة وثلاثون شخصا واعتبر الأكثر دموية داخل مؤسسة تربوية في تاريخ الولايات المتحدة، والذي أثار انزعاجا واسعا في الأوساط الأمريكية، وهو انزعاج لا يرجع إلى الحادث في ذاته، بل إلى إحساس دفين بأنه تعبير عن ظاهرة واسعة أصبحت متكررة بشكل مقلق لدرجة أن بعض الخبراء أصبح ينظر لتكرارها باعتباره تجسيدا (لثقافة العنف) والأسس الثقافية التي قامت عليها الحضارة الأمريكية منذ اكتشاف العالم الجديد، مثل الحق في امتلاك السلاح والاعتماد على القوة وممارسة العنف باعتباره المفسر الأساسي لبروز هذه الحضارة بسرعة خلال عمرها القصير، فلولا هذا المبدأ لما كان من الممكن إبادة العرق الهندي (أو الأمريكيين الأصليين)، ولا أمكن مجابهة قوة الطبيعة واتساع الأراضي، وحسم الحروب الأهلية، وقبل ذلك كله فإن الاستحواذ على أكبر مساحة من الأرض الجديدة والاحتفاظ بالممتلكات كان من نصيب الأقوى والأسرع إلى استخدام المسدس الذي يمكن اعتباره بمنزلة الطوطم المقدس لهذا المجتمع الفريد من حيث ظروف نشأته.

حالات الانتحار ارتفعت إلى المثلين خلال عشر سنوات وأصبحت االسبب الرئيسي للوفيات بين من هم في العشرينات والثلاثينات من عمرهم، وقال لي هيونج شيك رئيس مركز مكافحة الانتحار في كوريا إنه خلال السنوات العشر الماضية وصل اجمالي حالات الانتحار إلى نحو سبعين الفا، وهو ما يفسر حث الحكومة للمنظمات المدنية ووسائل الاعلام على تجنب الاشارة الى المواقع الالكترونية التي تقدم الاستشارات التفصيلية لمساعدة الراغبين في الانتحار.

ويعد معدل الانتحار في كوريا الجنوبية من أعلى المعدلات بين الدول الصناعية الثلاثين الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، غير أن العدد في كوريا بالذات يرتفع بنحو واحد بالمئة سنويا أسرع منه في جميع الدول الاخرى وهو ما يلقي بظلال قاتمة على مستقبل تنامي ثقافة الانتحار بين الكوريين الجنوبيين.

أما النمط الآسيوي الانتحاري الآخر فهو نمط النحر للآخرين من الأعداء حتى ولو تضمن ذلك نحر الذات، وكان صيت العمليات الانتحارية من هذا النمط قد ذاع اثناء الحرب العالمية الثانية عندما قامت مجموعات من الطيارين اليابانيين بتفجير طائراتهم بتوجيهها إلى الأساطيل الامريكية فيما عرف بعمليات (الكاميكاز)، كما ذاع صيت النمط نفسه مع العمليات الانتحارية التي قامت بها المنظمة التي عرفت باسم (الجيش الأحمر الياباني).

ومنذ سنوات كانت هناك العمليات التي قامت بها طائفة (أوم) الدينية اليابانية التي أطلقت غاز السارين القاتل في مترو أنفاق طوكيو قرب مقر الحكومة اليابانية.

ولكن يلاحظ أنه في كافة عمليات النحر الجماعي من هذا النمط كان المكان أو الزمان أو الفئة المستهدفة بالقتل يتم تحديدها بطريقة مفعمة بالدلالة السياسية الرمزية لكي تكون الرسالة واضحة دون أي لبس أو غموض، وهو وضع يختلف عن ثقافة القتل الجماعي العشوائي على النمط الأمريكي.

من ناحية أخرى استند أصحاب هذا التفسير الى اصرار القاتل في الحادث على الاحتفاظ بجنسيته الكورية وعدم حصوله على الجنسية الامريكية حتى لحظة انتحاره، ولكن مثل هذه الوقائع وغيرها يمكن أن تفتح الباب أمام التفسير المضاد أيضا، فهل يمكن أن يكون الحادث نوعا من رد الفعل النفسي ازاء تصاعد النزعات العنصرية الأمريكية التي كانت وراء العديد من حوادث العنف والقتل التي ترتكبها جماعات الكراهية العنصرية مثل جماعات (المعاطف السوداء الطويلة) أو(الوطن الآري) أو(الوطنيون المسيحيون) أو (مالكو السلام في أمريكا)، وهي الجماعات التي سبق أن حذر تقرير (اللجنة العالمية المعنية بالثقافة والتنمية) الذي صدر عن اليونسكو مع بداية الألفية من تناميها حين أشار الى أنها قد تجاوزت 250 جماعة في أنحاء الولايات المتحدة، وهي جماعات يمينية عنصرية متطرّفة تدعو إلى حق البيض في العيش في كيان وطني خاص بهم، وتعمل على بث كراهية الأعراق الأخرى من خلال شبكة اتصالات ضخمة ومتطوّرة، كما تملك ميليشيات مدرّبة جيداً على استخدام السلاح.

والأمر المؤكد أن وجود هذه الجماعات يشكل ضغوطاً نفسية رهيبة على الأقليات العرقية في الولايات المتحدة مما يشكل مناخا مواتيا لظهور مشاعر الكراهية المضادة، كما تطلق مظاهر العنف الجماعي المتوتر تجاه البيض عموما خاصة الرموز الثقافية المعبرة عن (المؤسسة) والتي تجسدت في حالتنا في المؤسسة التعليمية وكذلك الطبقة العليا المترفة من البيض التي وجه القاتل انتقاداته لها ولسلوكياتها الماجنة غير المكترثة بالأقليات والفقراء في المجتمع.

الجديد في الحادث اذن أنه قد يشير أيضا الى ظهور أنماط جديدة من العنصرية غير الظاهرة التي تتخد ألوانا كامنة من التمييز الاجتماعي، فهل ينتظر المجتمع الأمريكي موجة من ردود الأفعال الفردية التي قد تتطور لتصبح اضطرابات جماعية قد تتجاوز الاضطرابات العنصرية التي ضربت لوس انجلوس عام 1992 والتي راح ضحيتها 50 قتيلاً ولكنها الآن أصبحت متوقعة من كافة الأعراق غير البيضاء ولم تعد محصورة في العرق الأسود فقط؟.

من منظور الثقافة السياسية ربما يقدم الحدث اشارة مقلقة للمستقبل تنبئ بفشل نموذج البوتقة الثقافية الأمريكية القادرة على صهر كافة المكونات الثقافية والعرقية للموزاييك الاجتماعي الأمريكي وهو النموذج الذي تم الترويج له باعتباره نموذجا قابلا للتكرار والاحتذاء في مجتمعات أخرى في العالم المعاصر، فعلى الرغم من بعض الخصائص الثقافية الآسيوية لحادث فرجينيا الا أنه لا يخلو من عناصر داخلية تنتمي لثقافة العنف والقتل العشوائي والمناخ العنصري المتوتر في المجتمع الأمريكي المعاصر وهو ما سنفصله في مقال قادم.

القاهرة F-elsaeed@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة