Culture Magazine Monday  28/05/2007 G Issue 200
مداخلات
الأثنين 11 ,جمادى الاولى 1428   العدد  200
 
«المجلة الثقافية » لكل العرب

 

 

سعادة مدير تحرير المجلة (الثقافية).. سلمه الله

أود أن أشيد بالمستوى الرائع - طرحاً في المحتوى، وجمالاً في الإخراج - الذي يشدني دوماً إلى مجلتكم الغراء، وأبعث لكم المقال المرفق تعبيراً عن رغبتي المشاركة فيها، لأنني أشعر أنها موجهة للعرب جميعاً، وليست رسالتها الثقافية محصورة في نطاق جغرافي محدد:

لا نستطيع أن نفهم الإبداع فهماً صحيحاً إلا في إطار المعرفة الإنسانية، والمعرفة وجهان: وجه مادي تُمثِّله العلوم الطبيعية (الفيزياء والكيمياء والطب).. ووجه غير مادي (الدين والفلسفة والفنون ومنها الآداب)، لكنها المعرفة لم تكن دائماً بهذا الثراء والتنوع، بل كانت في المراحل الأولى من تطور الإنسان تعتمد إلى حد كبير على الطقوس والأساطير وأشكال التعبير الأخرى عن علاقة الإنسان مع الوجود المطلق، ومع محيطه الطبيعي والبشري، وفي تلك المراحل من التطور لم يكن من الممكن الفصل بين المعرفة والإبداع، فالمعرفة تتشكل عموماً من علاقة الإنسان مع الوجود، لكنها لا تتشكل بمعزل عن وعي الإنسان، بل هي عملياً نتاج علاقات هذا الوعي مع المحيط الاجتماعي، ممثلاً بالأفراد والهياكل الاجتماعية، ومن جهة أخرى فالوعي الإنساني يبني المعرفة بالتعبير عن علاقاته مع ما حوله، وهذا التعبير الذي يبني المعرفة غالباً ما يكون تعبيراً باللغة، والتعبير باللغة لا يبني المعرفة إلا إذا جاء بجديد، وبشرط أن يكون هذا الجديد جميلاً، فإذا جاء الجديد جميلاً فهو إبداع.

هنالك من حاول تعريف الإبداع على أنه الإتيان بجديد، لكن مثل هذا التعريف لا يفي بالغرض، ولا يعطي الإبداع حقه، فمفهوم الجديد موجود في الإبداع الأدبي بصورة (ما)، لكن الجديد قد يأتي في قالب أشياء تخلو من الجمال، فلا تمت للإبداع بصلة، فالإبداع الفني عموماً، ومنه الأدب لا يتحقق بدون الجمال، لأن الإبداع نتيجة لنشاطات الملكات الأرقى في النفس، تلك الملكات التي تميز الإنسان عن سواه من الكائنات، وتتمثل في الأحاسيس المرهفة، والعاطفة، والعقل الإنسانيين، ويحدث الإبداع بتفاعل هذه الملكات مع مادة الإبداع، أو خاصته الأولية التي هي الأشياء في وجودها المطلق، وعليه فالإتيان بجديد لا يكون إبداعاً إلا إذا كان جميلاً، ذلك لأن الإبداع الفني- عموماً - إنما يتحقق بالإتيان بجديد جميل عبر الملكات الواعية، والإبداع الأدبي - خصوصاً من ذلك العموم - هو الإتيان بجديد جميل بواسطة التعبير اللغوي عبر تلك الملكات.

الفنون الأخرى غير الأدب تخاطب الأحاسيس والمشاعر كل منها بطبيعته الخاصة، فالموسيقى مثلاً تخاطب الأحاسيس والمشاعر بالإيقاع والنغمة، والرقص يخاطبها بالإيقاع والحركة، والرسم يخاطبها باللون والخطوط والنحت، وهكذا.

وجميع هذه المخاطبات موجهة إلى السمع أو البصر أو إليهما معاً، وإذا تحول أثر هذه الفنون إلى أفكار فإنه لا يتحول إلا باللغة التي تفكر بواسطتها دون أن تخرج من داخلنا، أما الأدب فيخاطب الحس والشعور بما فيه من جمال، ويخاطب العقل بما فيه من فكر، ولهذا فإن الأدب أكثر الفنون والعلوم والمعارف تعبيراً عن الإنسان، لأن الإنسان يحقق وجوده غير الحيواني على مستويين من الوعي، هما مستوى العقل المجرد، ومستوى العواطف والأحاسيس والمشاعر، فالأدب يتجه إلى هذين المستويين معاً، وهو لهذا السبب كان الأداة الأكثر فاعلية في بناء المعرفة، لكن العلاقة بين المعرفة والإبداع الأدبي تلك كانت أوضح في المراحل الأولى من تطور الوعي، ففي تلك المراحل لم تكن العلوم المتطورة المعروفة اليوم مثل الفيزياء والكيمياء والرياضيات وعلوم الفضاء ونحوها بالصورة التي يعرفها الإنسان في العصر الحالي.

ولذا وجدنا في الأمم القديمة أن معرفتها الإنسانية تتركز أساساً في الطقوس والعبادات والأساطير، وبها كان الإنسان يعبر عن همومه وهواجسه وأفراحه ومخاوفه وعن كل ما يميزه عن الكائنات غير البشرية، وهذا التعبير في حقيقته وجوهره كان تعبيراً نفسياً، حيث ظل الإنسان يرسم ممارسات طقوسه وأشكال عباداته ومعتقداته على الصخور وجدران الكهوف، وبهذه الطريقة بدأت فنون الرسم والنحت، وتطورت حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن.

في بداياته اقتصر على الشعر تقريباً، وبه كان الإنسان القديم يقيم طقوسه في الجانب المنطوق، كما كان هذا الإنسان يرفع بالشعر ابتهالاته وأدعيته، ويخاطب آلهته عند تقديم القرابين أو بناء المعابد والمذابح، وحتى تاريخ الأقوام البدائية كان يسجل بالشعر، وتسجيل التاريخ بالشعر تطور إلى ما يُعرف الآن بالملاحم، وتعرف الملحمة بأنها: (قصيدة روائية طويلة، شخصياتها من الأبطال وأحداثها بطولية).

ومن الأمثلة على الملاحم الكلاسيكية الشهيرة، التي ينطبق عليها هذا التعريف: الإلياذة والأوديسة المنسوبتان إلى الشاعر الإغريقي (هوميروس) وكذلك الإلياذة للشاعر الروماني (فيوجيل).

والملحمة إذن هي: إبداع شعري، لكنها كانت تؤدي الدور الذي يؤديه الآن التاريخ المكتوب، إذ كانت تروي أحداث التاريخ بلغة الشعر، وكان الشاعر يمزج بين ما حدث فعلاً من تاريخ قومه، وبين عواطفه تجاههم، وتزول الحدود أو تكاد بين الملحمة والأسطورة.

وفي ظل تطور تقنيات الاتصال والإعلام ووسائطهما المرئية والمسموعة والمكتوبة والممغنطة والإلكترونية ينبت السؤال المهم: كيف كان، وكيف أصبح حال الإبداع في ظل هذه التطورات بين القلم بمداده ومحبرته، وبين الحاسوب بأقراصه وبرمجياته؟ وهل يمكن لهذه التقنيات والوسائط أن تضع حدوداً مرسومة يمكن حصر الإبداع فيها؟ أم أن تلك الحدود توسعت إلى درجة لا يمكن - بحال - توصيف ملامحها، أو حصر معطياتها؟.. وكيف نستطيع تنمية الإبداع وتغذيته في هذا العصر؟ ونحو ذلك من الأسئلة المشروعة والمشرعة التي تظل حبيسة الذهن بانتظار إجابات شافية ومقنعة!

وفاء عمر حصرمة سورية - حلب - ص.ب 9177


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة