Culture Magazine Monday  30/07/2007 G Issue 209
فضاءات
الأثنين 16 ,رجب 1428   العدد  209
 
خَلع....
أمل زاهد

 

 

أدار الطبيب وجهه قائلاً لها: لا بد مما ليس منه بد، سأضطر لخلع الضرس!!

رمقته بعينين مذعورتين بينما ترقرقت دموعها في مآقيها وتمتمت بصوت خفيض لم يسمعه أحد إلا ذاتها المنهكة حد الإعياء: لا بد مما ليس منه بد!!

ألا يكفيها الخلع الآخر الذي يحفر في أعماقها.. ألا تكفيها محاولة اقتلاعه من جذور نفسها والتي تخالها مستمرة منذ الأزل وإن كانت بعد لا تزال عصية على التحقيق.. حتى تقذف في وجهها الدنيا بضرورة خلع ضرسها والذي حسبته قوياً صلداً واقفاً في وجه عوامل التعرية وأنواء الزمن!!

فتحت فاها إلى أقصاه بينما راح الطبيب المكمّم يعيث ذهاباً وإياباً بأدواته في أسنانها، ثم خدّرها في كل نواحي خدها الأيسر. شعرت بوجهها يتورّم ويتورّم وكأنها تنوء بثقل خدها.. ثم ما لبثت أن شعرت بخدر ثقيل يشل نصفها الأيسر كله..

تساءلت في نفسها ساخرة متهكمة: وهل يكون إلا في الجانب الأيسر.. ذلك الخافق التعب، الذي تشعر بتورمه هو الآخر وكأنه تمدد في جوانب جسدها فلم تعد تشعر بعضو آخر من أعضائها غيره، فباتت هي ذاتها قلباً متورماً ينوء بأوجاعه.. مثقلاً بأحماله.. منهكاً بكل ذلك الكم من العروق الدقيقة التي تضخ دماً ساخناً.. دماً متوجعاً يدفق في عروقها أنات العذاب ويصهل داخلها بآهات الألم.. كم هو مثير للدهشة والاستغراب أن أغشية الفم هي الأخرى رقيقة ناعمة كما أغشية قلبها الذي ترى الظروف والبراعم الصغيرة تعبث بها.. كما يعبث الطبيب بأغشية فمها الرقيقة وهو يحقنها بالمخدر..

يسدد لها الطبيب نظرة توحي لها أن قد أزفت الآزفة!!

يحاول الابتسام مهدئاً روعها، رباه لم تشعر بالألم كما تشعر به اليوم!! وهي القوية الصلبة التي لا يهتز لها رمش ولا يتحرك لها ساكن حتى وهي في أقصى لحظات ألمها!! لماذا تشعر أنها فقدت قدرتها على تحمل الألم.. هل الخلع مؤلم لهذه الدرجة ؟! ولماذا تشعر أن اقتلاع جزء من أعضائها يثير شجنها لهذه الدرجة، ويحرك أوجاعها التي لا تفتأ تخدرها كلما شعرت بنبضها وبرغبتها في الانبثاق والتوالد من أعمق ثنايا روحها ؟! ولماذا تشعر فجأة أن هذا الضرس بالذات عزيزٌ عليها، وأنها ترفض خلعه مهما كان به من آلام ومهما نخرته من أوجاع.. مهما نز ونبض مانعاً الكرى عن عينيها وسارقاً النوم من جفنيها.. تشعر بدموعها تتجمع في محجريها، تضغط بأطراف يدها اليسرى على طرف الكرسي الأسود الجلدي الطويل والذي أماله الطبيب كي يتمكن من تنفيذ مهمته..

ندت عنها صرخة حاولت كتمانها استدرت عطف الطبيب فتوقف عن الحفر بينما امتدت يد الممرضة تسند كفها الطليقة الأخرى..

سمعت صوت الطبيب وهو يحاول الكلام من خلف كمامته، فهمت بصعوبة كلماته التي قالها لها: الضرس متشبث يضرب بجذوره في أعماق اللثة، يبدو ظاهر الضرس ضعيفاً هشاً ولكن الجذر ثابت وقوي.. ماذا فعلت حتى كسرت قشرته الظاهرية؟! سنحتاج إلى المزيد من المخدر!!

رباه.. المزيد من المخدر والمزيد من الورم!! غثيان شديد يمتلكها يقلب معدتها.. وصداع يكاد يفجر رأسها، وتعب أشد ينهش كل قطعة منها.. تشعر بروحها وهي تئن بين جنبيها.. ينتظر الطبيب قليلاً ليعاود مهمته الصعبة بعد أن تأكد من شدة مفعول المخدر.

تشعر أنها باتت وجهاً متورماً متضخماً.. وقلباً متورماً وإن كان أكثر تورماً وأشد تضخماً!! وروحاً معذبة تنوء بآلامها، تريد فقط أن تفر من كل هذا.. أن تنسى الخلع والاقتلاع، أن تحتفظ بذلك الضرس حتى لو كان مريضاً.. يعز عليها أن تفقد جزءاً منها.. يعز عليها أن تفقده.. يعز عليها أن تهرب منه وقد بات جزءاً منها وقطعة من كيانها، يعز عليها أن تسعى بنفسها إلى اقتلاعه!!

يد الطبيب لا تزال تنخر في ضرسها المتشبث بمكانه.. الرافض التزحزح عن موقعه.. روحها تنعصر وتتلوى، دموع غزيرة تسيل على وجنتيها، دموعها تغرقها وكأنها دفق مطر غزير يسقي ملامحها ويروي قسماتها.. لا بد مما ليس منه بد.. لا بد أن يقتلع الضرس!!

رباه.. كيف لها أن تطيق أن يضحى مكانه فراغاً في جوفها.. مجرد فراغ ؟! كيف لها أن تطيق ابتعاده عنها؟! كيف لها أن تعيش دون أن يكون جزءاً من حياتها؟!! ما أصعب اقتلاعه من حياتها..

يد الطبيب لا تزال تعمل داخل فيها، لم يعد هناك ألم، بل شلل كامل يمتد إلى جميع خلايا وجهها.. الألم لم يعد في الضرس، بل تركز هناك في مكمنه الحقيقي داخل ثنايا روحها.. الألم هناك يمد يديه العابثتين ليعيث تخريباً وتدميراً في نفسها!! لا بد أن تقتلعه.. لا بد أن تتركه.. لا بد مما ليس منه بد!! لا بد من عملية الخلع مهما كانت مؤلمة!!

(دقائق وينتهي كل شيء) الطبيب يؤكّد لها ذلك!!

(ليتها دقائق أيها الطبيب.. ليتها تكون دقائق ثم أحصل بعدها على الراحة المأمولة) لسان حالها يجيبه ولكنها لم تنبس ببنت شفة..

بحركة رشيقة انتهى بها الطبيب من محاولاته الدؤوبة يرفع لها الطبيب ضرسها بآلته الطويلة قائلاً: (انتهينا يا ست هذه هو ضرسك العنيد) تشعر بطعم الدم في فمها.. تغص بطعم الدم، رائحة الدم النفاذة تملأ خياشيمها، تحتل كل جزيئة من رأسها.

تتناول الكأس لتغسل فمها من آثار الدم، كم تكره هذا الطعم البائس!! يريها الطبيب ضرسها وجذره الطويل المكسو بدمها.. تنخرط في نوبة بكاء حادة.. عويل يخرج من هناك.. من مكامن الوجع، عويل يقطع نياط القلب!!

(اليوم ستنامين قريرة العين لن تشعري بالألم بعد الآن) يؤكد الطبيب!!

تنظر له بعينين ذابلتين تستقر في قاعهما نظرة ساخرة..

تغمغم بصوت لا يسمعه غيرها: ها قد ابتدأ مشوار العذاب !!

- المدينة المنورة amal_zahid@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة