Culture Magazine Monday  30/07/2007 G Issue 209
سرد
الأثنين 16 ,رجب 1428   العدد  209
 
قصة قصيرة
وداع الأرواح
نوف الحزامي

 

 

منذ اللحظة التي أتت لي بها الممرضة في حضانة المواليد تحملها بين يديها.. ومنذ أن نظرت لعينيها البنيتين الدافئتين وهي تحملق في الفراغ الذي يسبق وجهي بسكينة.. منذ تلك اللحظة.. شعرت بأن شيئاً مجهولاً يكتنف تلك الطفولة التي بدأت أحبها بشكل غريب لم يسبق لي أن أحببت مثله أحداً من أطفالي من قبل..

منذ اللحظة التي رأيت فيها عيني سحاب.. عرفت أني سأعيش الألم في كل ثانية تمر عليّ.. لأني شعرت - ولا أعرف لماذا - أنها سترحل.. وتتركني.. بعد أن تعلقت بها كثيراً..

- بابا.. أنا أهبببببك..

حين قالتها لأول مرة شعرت بأن ألمي يزداد لأني ازددت تعلقاً بها.. وكنت أحاول أن أقنع نفسي أنها مجرد هدية مؤقتة ستعاد.. إنها مجرد شيء مستعار وسيستعيده صاحبه.. وكنت دائماً أحلم بها أحلاماً مفزعة..

كانت سحوبة.. بسيطة الملامح.. شديدة البراءة.. حظها من الجمال قليل.. ذات شعر بني يلتف على شكل حلقات.. وأنف مستدير صغير.. وحين تنظر إليك.. تشعر بأنك تنظر من أعماق روحها.. نظراتها هي التي كانت تجعلني أشعر بالحب والحزن والخوف في آن واحد..

وذات مرة انزلقت وسقطت على الأرض حين كانت في المطبخ مع أمها.. وفقدت الوعي.. حين سمعت صراخ أمها.. أتيت ركضاً.. أيقنت أنها ماتت.. قلبتها بين يدي ضممتها إلى صدري.. إلى قلبي.. عصرتها بشدة.. (ابنتي ماتت!.. ابنتي ماتت!) أخذت أصرخ كطفل صغير حتى اجتمع أبنائي حولي باستغراب.. سحبتها أمي مني وهي مستغربة من تصرفي الأهوج.. وحين بكت سحاب.. شعرت أن الروح قد عادت إليّ.. لم أفقد توازني وتماسكي من قبل كما فقدته يومها.. كان التفكير في فقدها هو الهاجس الذي يسيطر عليّ طوال الوقت..

كان كل من حولي يستغرب فزعي الشديد حين يحصل لها أبسط مكروه.. فقد كنت أعتقد أن كل حادث بسيط هو النهاية التي انتظرها.. نهاية هذه الهدية الغالية المؤقتة..

حين كنت انظر إلى ملامح وجهها الصغير.. كنت أشعر أنها تذكرني بنفسي في الصغر.. فهي تشبهني.. وتشبه والدي أكثر كما يقولون.. نعم والدي الذي توفي وأنا في الثالثة من عمري..

لا أحب أن أتذكر طفولتي..

تشردت كثيراً.. في بيت جدي ثم عمي.. وعانيت كثيراً.. قبل أن أصبح أباً لخمسة أطفال..

كلما نظرت في عينيها.. كنت أشعر بشيء غريب.. شيء يلمع كالبرق ويعود بي لسنوات غابرة.. كنت أتذكر معاناتي وطفولتي البائسة.. أتذكر شبح الموت الذي خطف مني أحب الناس.. وأشعر بشيء أسود يلتفني ويهمس لي بأنه سيخطفها مني أيضاً..

كلما نظرت إليها وهي نائمة كنت أضع يدي على أنفها لأتأكد أنها تتنفس.. بقيت لسنوات أعاني من عقدة الخوف عليها.. وكنت لا أرفض لها طلباً لأني كنت أشعر - في كل مرة - أن هذا هو طلبها الأخير.. كنت أسمع صوتاً في داخلي يقول.. إن أيامها معدودة.. لماذا ترفض طلبها وتحطم نفسها البريئة المعذبة..؟

معذبة؟.. نعم.. تلك هي الكلمة التي كانت تقتلني.. كنت أشعر.. أشعر أن في داخلها تنعكس صورة روحي المعذبة.. التي عاشت نفس هذه الفترة من عمرها في عذاب وحرمان وإهمال.. لكن هل روح سحاب معذبة؟ غالباً لم تكن كذلك.. لكن شيئاً غريباً كان يوحي لي بذلك.. لم أشعر به من قبل مع أي من أطفالي.. شيء يوحي لي بأن روحها البريئة تتألم دائماً.. تبحث عن الأمن والحب.. كما كنت أبحث..

في البيت كانت سحاب الوحيدة من أبنائي التي تحب أن تشاركني مجلسي في بيت الشعر فتضع أعواد الحطب الصغيرة في النار.. وتستمتع حين تضع حبة من حباة الذرة على الفحم وتنتظرها حتى تنفجر لتضحك..

وكان أجمل ما يمكن أن تستمتع بسماعه هو حديثي عن حياتنا سابقاً.. وعن البقرة التي كانت في بيتنا.. أو عن مزرعة النخل التي كنا نلعب في ظلالها.. كانت تحب أن تجلس طوال الوقت معي لتسمع هذه الحكايات حتى يأخذها النوم فتنام أمام حيواناتها البلاستيكية المتناثرة..

* * *

ذات يوم.. اشتكت سحاب من مغص في بطنها.. وحين راجعنا الأطباء وبعد عدة فحوصات.. اتضح بالصدفة أن هناك ورماً غريباً في أحشائها.. لم أصدم بهذا الخبر فهذه هي النهاية المؤلمة التي كنت انتظرها منذ سنوات.. النهاية التي جعلتني اعتزل الناس وأغرق في أحزاني..

كنت أعيش في فترة عزاء وحداد لها منذ ولادتها.. فليس مستغرباً أن أسمع هذا الخبر اليوم.. كل ما هنالك أني لم أكن أريدها أن تتألم.. لم أكن أريدها أن تعاني.. وتتعذب.. وهي ترحل..

استغرب الأطباء من ردة فعلي السلبية فقد كنت يائساً تماماً..

وأرقدت في المستشفى أكثر من أسبوع مع أمها.. ولا أعرف لماذا لم أجرؤ على زيارتها.. فقد كنت أخشى نظراتها المودعة..

اتصل بي خالها ذات يوم وعاتبني بشدة لتركي إياها في المستشفى دون زيارة.. لم أكن قادراً على الحديث ولا الكلام.. لكنه أصر علي بأن أزورها لأنها تسأل عني..

أغلقت السماعة وأنا أشعر بكل طرف من أطرافي يرتجف.. فهذا أصعب طلب يطلب مني.. أن أواجه ما كنت أخشاه منذ سنوات.. أن انظر في عينيها وهي تودعني..

وحين وصلت للمستشفى وقبل أن أدخلها عليها.. مررت على طبيبها..

- ما شاء الله! أنت والد سحاب.. تحاليلها وصلت للتو.. إنه ورم حميد ولله الحمد.. يمكن إزالته بإذن الله دون مضاعفات..

لم أستطع الحديث بكلمة واحدة.. أخذت الدموع تنساب من عيني.. وسجدت شكراً لله..

أجريت العملية وخرجت سحاب سليمة.. لكن.. بنفس النظرة المتألمة المودعة في عينيها..

كنت أشعر بهذه النظرات تعذبني أكثر يوماً بعد يوم.. كانت صورتها أمامي في كل لحظة.. تعكس ألم الماضي.. والمستقبل.. وتهدد بالوداع..

* * *

يوماً بعد يوم.. وسنة بعد سنة.. كبرت سحاب..

وبدأت نظراتها تتغير شيئاً فشيئاً.. حتى أصبحت فتاة عادية مثل غيرها..

لم تعد تهتم بالجلوس معي أو سماع أحاديثي.. أما عيناها البنيتان فحجبتهما بعدسات زرقاء تعجبها..

دخلت الجامعة.. وأصبح لها صديقاتها واهتماماتها الخاصة..

ولم تعد صديقتي الصغيرة..

جلست في بيت الشعر ذات يوم..

جلست أتذكر.. ألعابها التي كانت تنتثر كل ليلة هنا.. حبات الذرة التي كانت تأتي بها..

حيواناتها البلاستيكية الصغيرة.. وصوتها الجميل حين تقول.. بابا أنا أهببببببك..

شعرت أني افتقدها.. افتقدها بشدة..

افتقد ذلك الألم الذي كان يعذبني في عينيها.. يتوعدني بأني سأفقد روحها في يوم من الأيام إلى الأبد..

مسدت الأرض بيدي وأنا أتذكر مكان جلوسها قرب الموقد..

وأيقنت أني قد فقدت تلك الروح حقاً.. دون أن أشعر..

فقدتها إلى الأبد..


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة