Al Jazirah Magazine Tuesday  22/01/2008 G Issue 250
استشارات
الثلاثاء 14 ,محرم 1429   العدد  250
حبس المدين المماطل

* إعداد المحامي : سامي بن دريفيس التميمي

كثيراً ما يماطل المدين في سداد دينه الثابت بحكم القضاء رغم قدرته ويساره، ويضطر الدائن إزاء ذلك إلى اللجوء إلى إجراءات التنفيذ المنصوص عليها في نظام المرافعات الشرعية، وقد يتطلب الأمر اتخاذ إجراءات الحجز على منقولات يملكها المدين أو الحجز على عقار، وهي جميعاً إجراءات تتطلب المزيد من الجهد والعناء ويقتضي اتخاذها وقتاً ومالاً يبذلهما صاحب المصلحة من استعانة بأهل الخبرة من المحامين وغيرهم, فضلاً عن إشغال وقت وجهد الأجهزة القضائية والأجهزة المعنية المختصة، وكذلك المحضرين وغيرهم من الأجهزة المعاونة.

كما أن إجراءات التنفيذ تعني في كثير من الأحيان خصومة جديدة هي (خصومة التنفيذ) بصعوباتها ومشاكلها وهي خصومة غير مأمونة العواقب حيث إن المدين المماطل يزيد عناداً بعد الحكم عليه، وربما هرب أمواله أو تلاعب في استلام الإعلانات أو تعطيل إجراءات التنفيذ، أو رفع دعاوى مقابلة بالاعتراض على التنفيذ أو على شروط بيع المال المحجوز أو غير ذلك من المتاعب التي لا تنتهي، ذلك لأنه إذا كانت صعوبات التقاضي قد انتهت بصدور الحكم النهائي القابل للتنفيذ فقد آن أن تبدأ سلسلة أخرى من الصعوبات والمتاعب.

والعدالة لا تتحقق كاملة بصدور الحكم وإنما تتحقق بنفاذه، ولا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له.

كبرياء كاذب

والحل أنه ليس يكسر من عناد المدين المماطل الموسر، ويحد من غلوائه البغيض، ويحطم كبرياءه الكاذب، ويلزمه احترام الصك التنفيذي، مثل تهديده بالحبس، حتى يضطر إلى الوفاء أو يتقدم ذو شأن من أهله أو من غيرهم ليكفله أو يوفي نيابة عنه، وهذا والحمد لله مطبق في هذه المملكة لأنها تطبق شرع الله.

وقد يتصور البعض أن التزام المدين يجب أن يقتصر على ماله لا في شخصه، وذمته المالية هي التي تضمن الوفاء بالتزامه لأنهم يعتقدون أن التنفيذ بالإكراه البدني يهدر كرامة المدين، لكن من السهل الرد على هؤلاء بأن الشخص الذي لا يفي بما تعهد به يكون في الواقع قد أهدر كرامته بنفسه، فلا محل لرعايته واحترامه، والمدين الذي يمتنع عن الوفاء وهو قادر عليه أو الذي يقوم بتهريب أمواله، يستحق العقاب في كثير من الصور.

على أن حبس المدين المماطل مقرر في كثير من التشريعات الحديثة والمعاصرة، كما أنه حكم من أحكام الشريعة الإسلامية.

ففي فرنسا مثلاً ألغي الحبس كوسيلة للإكراه على أداء الدين منذ مدة طويلة، إلاَّ أن المشرع الفرنسي عاد إلى هذه الوسيلة حديثاً حيث قرر التنفيذ بالإكراه البدني.

لا غرابة في الحبس

وفي القانون الإنجليزي يحبس المدين إذا امتنع عن الوفاء بالدين المحكوم به لما في ذلك من ازدراء بالمحكمة.

وفي الكويت نجد أنّ حبس المدين وسيلة مادية وقد دلت التجربة على أن كثيراً من المدينين يقومون بالوفاء خوفاً من حبسهم. وكذلك في العراق وفي السودان فيما يتعلق بالتنفيذ الجبري.

ومن هذه الأمثلة نرى أن الحبس في الدين ليس غريباً على التشريعات الحديثة والمعاصرة، العربية، والغربية وأن المنظم عند ضبطه لقواعد التنفيذ، يجب أن يراعى تمكين الدائن من اقتضاء حقه الثابت بالصك التنفيذي وإلا أصبح هذا الصك قصاصة من ورق لا حياة فيها، فإن علينا أن نساعده في الحصول على هذا الحق الثابت وبسهولة، وينبغي ألاَّ نصوره بصورة الرجل الثري الذي يتسلط على مدين مسكين، فكم من الدائنين في حاجة إلى ديونهم أكثر من مدينيهم.

وفي الشريعة الإسلامية الغراء - المدين الفقير غير القادر لا يجوز حبسه لأن الله سبحانه وتعالى يقول: (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ (280) سورة البقرة. ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لغرماء الذي كثر دينه (خذوا ما وجدتم ليس لكم إلاَّ ذلك) - المغني لابن قدامة الجزء الرابع طبعة دار الكتاب اللبناني ص 502 وما بعدها - وأما المدين القادر على الوفاء فقد جاء في نيل الأوطار للشوكاني طبعة منير الدمشقي الجزء الخامس - عن عمرو بن الشريد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته) رواه الخمسة إلا الترمذي - قال أحمد قال وكيع عرضه شكايته وعقوبته حبسه - الحديث أخرجه البيهقي والحاكم وابن حبان وصححه وعلقه البخاري. واستدل به على جواز حبس من عليه الدين حتى يقضيه إذا كان قادراً على القضاء، تأديباً له وتشديداً عليه، إلاَّ إذا لم يكن قادراً. وقد ورد أن عمر بن الخطاب أتاه رجل فقال يا أمير المؤمنين أجرني، قال: مِمَّ قال: من ديني. فقال عمر: السجن. وشريح القاضي حبس ابنه بسبب الكفالة عن رجل.

وهذا الذي عرضناه يبين مدى فعالية أحكام الشريعة الإسلامية باعتبارها عبادات ومعاملات - دنيا ودين - وأنها سبقت كل التشريعات في وضع الحلول المنطقية والسليمة لاقتضاء الديون وردع المدين المماطل وزجره.


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة