Thursday 4th March, 1999جريدة الجزيرة 1419 ,الخميس 16 ذو القعدة


الثقافة رهان حضاري
(3) الثقافة كفلسفة حياة
أ,د, كمال الدين عيد

عاش ويعيش ملايين البشر على ارجاء المعمورة ويموتون دون ان يدركوا فلسفة الحياة, وذهبت حياتهم سدى فلم يخلفوا شيئا نافعا من بعدهم، واعني (بالشيء) هنا الاثر الثقافي.
علاقة الثقافة بالحياة
من المؤكد ان هناك علاقة من نوع ما تربط بين عالم الثقافة والحياة الانسانية,, وهي علاقة معقدة غير بسيطة تستند في اغلب مدلولاتها إلى فكر فلسفي لا يستطيع رجل العامة فهم كنهها او تفسيرها او حتى الولوج إلى داخل عوالم هذه العلاقة ومن هنا تصبح الثقافة في ابسط مدلولاتها بعيدة بعيدة عن العامة والبسطاء.
حدد الفيلسوف الالماني ديلتهي W.Dilthey هذه العلاقة في مفتاح ذي ثلاثة اسنان هي الحياة، الثقافة، التاريخ,, اي ان التاريخ هو العنصر الوسيط بين الحياة والثقافة, فالحياة هي التي تمد البشر وتثري ذواتهم بالخبرات المكتسبة والمعارف السائدة عن طريق شخصي Subjective ومع ذلك فإن جوهر فلسفة الحياة لايرقى الى السطح, لماذا؟ لان هذه الخبرات او من بينها تحديدا ما يتمتع بالاهداف والاغراض والموضوعية Objective، والعلاقات التي تظل معاكسة لطريق المكتسبات, ومع ذلك فإن الاحساس الذاتي الداخلي يظل باقيا ناثرا لذراته على مدى الحياة, الامر الذي يطرح صراعا Conflict وتضاربا داخل النفس البشرية، حتى برغم وجود قنوات وشعيرات روحية تحمل مضامين الثقافة وبوقوف الانسان بين طريقي الذاتية والغرضية خاصة الانسان المتعلم - فانه باستطاعته توجيه خبراته ومكتسباته الحياتية الى فهم جوهر الحياة والتعامل مع مظاهرها وأشكالها المختلفة والمتغيرة دوما.
أما الثقافة - من وجهة نظر ديلتهي - فهي ابداع فردي شخصي Individual وهي تبدو لذلك ضبابية غير ظاهرة الاغراض في حضورها، وحتى لو برز وجودها على السطح احيانا او في فترات معينة، فإن هذا البروز يعزى إلى اهداف مشتركة مع عناصر تاريخية اخرى, فسلوكيات الانسان هي الكاشفة لا محالة عن مستوى ثقافته, وهذه الثقافة هي في واقع الحال محصولة من الحياة التي يعيشها، وهي العصير الذي يمتد في ابداعاته الفنية, ومن الطبيعي ان يكون المجتمع او الجماعة هو الملهم لهذا الابداع الذاتي الحر عند الفنان، والذي يتحقق ويتجسد في النهاية في فكره ونشاطه وألمعيته,ويتم هذا التجسيد عن طريق تنظيم وتنسيق Coordination للوظائف بين نظم الثقافة والخدمات الاجتماعية المعاونة, فالفنون والعلوم كل منهما مستقل عن الآخر، فلكل شخصيته الاعتبارية ومنهجه وطريقه، وليس من العسير اكتشاف علاقة احدهما بخدمات المجتمع او بتغيراته, فهما يؤثران في المجتمعات وطبقاتها المختلفة عن طريق نشر الاديان والتعامل مع اللغات بطريقة اكيدة، شأنهما شأن التيارات والحقبات التاريخية والعوامل الطبيعية, ومن الطبيعي ان يعطى المجتمع حرية كاملة لانسانه (نسبيا), ولذلك كان من الضروري ان تبنى بحوث الثقافة على دعامتين لا ثالثة لهما، وأقصد بهما الجانب العقلي النفسي Psychic، والجانب الفيزيكي النفسي Psychophysic فبغير الاعتبار لاساسيهما يتعثر الحصول على الحياة الروحية - الروحانية Spiritual وأنماطها في عالم الثقافة.
يشير علم النفس إلى ان نظرة السيكولوجية ليست مطلقة او بصورة كاملة Absolutely أو هي خالية من الشكوك, بمعنى ان لها حدودا يمكن ان يقف الانسان حائرا حيالها, وتفسير هذه النظرة ان الانسان ليس بمستطيع الوصول إلى الفردية الخاصة به دون الاتصال او التماس مع الاخرين, هذا التماس الذي يحقق لا محالة قيمة النشاط الانساني في ميادين الثقافة ودروب الابداع, ولعل الاهم هنا هو ارتفاع الانسان - وفكره الانساني معه - عن الخصوصيات الذاتية والشخصية.
لكن ديلتهي يرى مشكلة في هذا التماس, فهو يعتبر تماس الانسان مع الآخرين او ثقافتهم انتهاكا لنشاط وثقافة الانسان الآخر, وهذا ما يبدو معقولا, فإذا كانت العلاقة الذاتية لا تستطيع ان تتحقق فعليا إلا بعلاقة خارجية اخرى، فإن بحث المشكلة يعيدنا إلى الوراء قليلا,, إلى التاريخ, فالحل قد يكمن في عصور التاريخ هذه المرة.
فمن المعروف ان الخبرات المعرفية الذاتية منحوتة في عصور التاريخ فالفكر هو منشئ العلاقات بين الاحداث التاريخية في عصور شتى, والابداعات الثقافية على مر العصور هي الشاهد الامين على الفن وأزمانه وتاريخه, وليس بالامكان اليوم ان نعيش او نقتبس زمنا او شكلا او نمطا معينا من الاثرية او القديم، دون اللجوء الى التاريخ، وتحديدا دون فحص (العلاقة الروحانية) في ذلك الزمان، وإلا افتقدنا جزءا كبيرا وجوهريا من الهدف, لكن التاريخ لا يبرز في رحلة العودة اليه إلا كإطار فقط، فالانسان هو الذي يعطي الحل والاشعار الثقافي, على هذا يبدو المضمون هو الاهم وليس الاطار او الشكل، كما لا تطغى الغرضية التاريخية على الابداع الذاتي نفسه الناتج عن الانسان.
الهدف والذات
هذا التسابق السيكولوجي داخل الصانع الثقافي,, الانسان، بين الذاتية وخبرتها الذاتانية Subjectivism التي اضحت اليوم مذهبا فلسفيا، وبين الموضوعية Objectivity قد تعرض له بالتحليل والنقد والتشريح عدد غير قليل من الفلاسفة والمفكرين، فهما الخطان العالقان دوما في النسيج الثقافي, احدهما يقفز على الآخر بينما الآخر يقاوم حرصا على الكيان والديمومة داخل نفس الانسان، وفي ضبط وحكمة لتصرفاته وسلوكياته، بُعدا عن اللاعقلانية والتناقض والتضارب, ويعترف الفيلسوف الالماني ج,سيمال G.Simmel انه مدين في فكره لنظرية الثقافة, لانه يعتبر ان اشكال الحياة المفعمة بالروحانيات ما هي إلا اعلى درجات الثقافة, وان نتائج معاملات هذه الحياة - فضلا عن ممارساتها الفعلية الحديثة - ما هي الا موجودات زمنية سابقة لم يسمح لها سابقا بالتحقيق والانتشار, وما هو - في العصر الحديث - مهمة الثقافي الواعي في اعادة معنى الابتكار على سطح الحياة المعاصرة, فهدف الثقافة في الحياة ذرات داخلية مصقولة يحملها الانسان في صور خطوط غير واضحة المعالم مسبقا، لكنها تتحول الى التحقيق في هذا العالم بعد صبغها بالحقائق والمكتسبات, وبين الصورتين غير الواضحة والتحقيق، تتناثر (خطط التفكير) بفعل الخبرات الخارجية التي لا يجب ان تحول الثقافي عن أحاسيسه ومعتقداته, وعليه ان يسير في طريق الثقافة تاركا كل ما هو ذاتي وغير موضوعي، ومنعطفا في اعتراف لكل روحانيات موضوعية تنشأ, وفي هذا المقام تنشأ مرة اخرى بالضرورة علاقة ذاتية ثانية بالاهداف والاغراض، عليه ان يمتثل لها، وإلا فان الموضوعية لن ترفعه الى مصافها, وعلى هذه الصورة يبقى التطور الثقافي في الميدان وحده بعيدا عن العلاقات التاريخية والاجتماعية, ويظهر المضمون الثقافي الموضوعي من وجهة النظر الموضوعية - في هدفه وأغراضه - قويا بلا منازع, وإذا كان النشاط الذاتي للانسان هو العامل الاهم في الثقافة، فلماذا إذن يتطلب تحويل الذاتيات الى الموضوعيات؟ ولماذا لا يبقى الانسان داخل نفسه وذاتياته مسورا داخل معارفه وحول إطارها؟
يشير شيمال إلى عدة اجابات نوعية في هذا الصدد فيذكر ان المضامين الروحانية الموضوعية ذات الثقافة هي الابقى، وهي التي تتحول الى التقدير الاعلى الذي ترجوه البشرية ويتوق اليه انسان المجتمعات كما انه من الطبيعي ان تتنازع كل من الموضوعية والذاتية نفس الثقافي، ومن المنطقي كذلك ان يمس هذا التنازع الفكر الابداعي الموضوع الثقافي المبتكر لكن النتيجة تتحقق في النهاية حين يظهر العمل الابداعي في صورة تركيبية جديدة Synthetic فضلا عن رغبة الثقافي المبدع في ابرازه لعمله والاعلان عنه, نسيج جديد من الروحانيات والمكتسبات بقياس دقيق هو طريق الثقافة في فلسفة الحياة، رغم التعارض الشديد بينهما (فلسفيا), فعلى طريق الثقافة نعثر - تاريخيا - على عناد إن لم يكن حربا وكراهية بين الثقافة والموروثات الشكلية,, حرب غير معلنة لكنها ممتدة وسارية, ويجر هذا العناد إلى تشاؤمية ظاهرة, وها هو المؤرخ الالماني ازوالد سبنجلر O.Spengler صاحب كتاب (سقوط الحضارة الغربية) (1) يلخص النشاط الثقافي فيقول "انه كل الماضي، وكل قادم يُعبر عن التاريخ العالمي", ومعنى هذا اشارة إلى اللاعقلانية Irrationalism التي حركت في الماضي - وتحرك حاضرا - كل نشاط او تغيير ثقافي، طالما هي ترتكن الى التاريخ وإلى الاعتراف بالعفوية والتقليدية.
التقنية والحياة
ونحن على مشارف القرن الميلادي القادم تتضح اهمية التقنية العصرية بالنسبة الى الحياة اولا ثم إلى الثقافة, ثانيا إذ تعتبر التقنية عاملا من عوامل التنمية الثقافية في العصر الحديث, تنسف التقنية بالديناميت مبنى شاهقا من عدة أدوار تفوق العشرين في ثوان ليتحول المبنى إلى رماد, مثال واحد دامغ على صلة التقنية بالحياة الآنية, لكن,, هل لهذه التقنية علاقة مباشرة بانسان العصر؟ من المؤكد ان الاجابة بنعم, إنها - عن طريق مباشر وغير مباشر، محسوس ومرئي - تقوى من الفكر الانساني ومن تعميق الاحساس لدى الانسان بقوته وجبروته.
كما تبعث على سيادة واستئساد احاسيسه الداخلية بحكم ما يراه حوله من قوة تقنية هائلة تحقق المستحيلات, ومع ذلك فالحياة - حول نفس الانسان - تكافئه بالقهر واضعاف الروح والنفس، وتعذبه بانتهاك ما يملكه, وهذا الموقف المتناقض يخلق صراعا بين الانسان والطبيعة في رغبة عارمة للثأر والانقضاض, وصراعا آخر بين الشعوب والحكام الظالمين, وهكذا في الكثير من بقاع العالم اليوم تضطرب النظم الحياتية, ولعل هذا الاضطراب قد بدأ في القرن الماضي حينما ظهرت تقنية الآلة في بريطانيا, وحجمت من جهد الانسان وعمله سابقة عمله اليدوي في كثير من عمليات الانتاج, فالتقنية لا تعني بالانسان ولا تستمع له, وهو ما دعاه إلى الهروب عن الحياة بعيدا, وهي نفس الصورة التي يراها شبنجلر لمستقبل الثقافة، خاصة إذا ما انفردت الطبيعة بها, تولد، فتزدهر، فتطرح ثمارها الورود والرياحين، ثم,, تموت او تنقرض, وهو يشبه حياة الثقافة مرة ثانية بالحياة الانسانية, ميلاد، فمرحلة طفولة، ثم طور الشباب اليافع، فحياة العجائز والشيخوخة, انه يقدم القياس او هذا التشابه ليخلعه على دور الثقافة في الحياة, ومع ذلك فلعلني اختلف مع الباحث الكبير باعتبار ان الثقافة فلسفة حياة متفائلة طالما بقى تعبير الالفاظ هو الرائد والساير في الحياة المعاصرة.
(1) حصل كتاب أزوالد شبنجلر (سقوط الحضارة الغربية) على جائزة احسن كتاب في النصف الاول من القرن العشرين من بين آلاف الكتب الصادرة - جائزة اليونيسكو.
backtop
الاولــــى
محليـــات
فنون تشكيلية
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
العالم اليوم
مئوية التأسيس
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved