Thursday 4th March, 1999جريدة الجزيرة 1419 ,الخميس 16 ذو القعدة


مجنون ليلى: قراءة أولى

منذ عشرين سنة وانا اتمنى ان اكتب عن مجنون ليلى, كنت ادرسه لطلابي وانا بعد معيد بالجامعة، وكنت اقرأ معهم اخبار المجنون في كتاب الاغاني للاصفهاني، وكذلك مسرحية احمد شوقي عنه، بالاضافة الى مسرحية صلاح عبدالصبور بعنوان ليلى والمجنون ، والتي كتبها وقد دخل في تناص مع مسرحية شوقي, ومنذ سنتين عدت للاهتمام بالمجنون والجنون في الأدب العربي، وكذا التراث العربي والاسلامي، وقرأت كتبا شيقة في الموضوع ولكني لم اكتب شيئا، وظل للمجنون في الاغاني جاذبية في نفسي وحنين خاص.
وكنت قد لاحظت خاصية فنية في الاشعار التي اختارها ابو الفرج الاصفهاني للمجنون، وهي خاصية لم تكن بعد في عصر المجنون قد انتشرت في الشعر العربي، ولعلها ما تزال في حاجة الى دراسة مستقصية في هذا الشعر واعني بتلك الخاصية ان يربط الشاعر بين احساسه الداخلي بحب ليلى واشياء خارجية من الطبيعة والثقافة، وقد يتصور المرء ان هذا هو الشيء الطبيعي في المسألة, ولكني لا ازال ألاحظ ان المجنون تميز بهذه الخاصية على نحو غير مسبوق في الصور الشعرية التي ابتكرها في هذا السياق, والبحث المتعمق وحده هو الذي سوف يثبت قيمة هذه الصورة واستمرارها في مدونة الشعر العربي بعد المجنون بصفة خاصة.
وقصة المجنون في الاغاني تحتاج نفسها الى دراسة حديثة من منظور علم السرد، اذا صح التعبير وهي لا تقل جاذبية عن الاشعار التي اختارها الاصفهاني، ولكني لن اتوقف عنها هنا، وسوف اعرض للاشعار على نحو ما وردت في الجزء الثاني من الاغاني (المطبعة البوليسية، ودار الثقافة، بيروت 1955، ص 5 - 79) والجدير بالذكر ان بعض هذه الاشعار تنسب للمجنون وغيره من المجانين، وسوف اقرأها كلها من المنظور نفسه، وعلى افتراض صحة نسبتها لمجنوننا الشهير, وهي قراءة اولى برغم ذلك العشق القديم لشعر المجنون على امل ان تتلوها قراءات اخرى.
أنشد اعرابي من بني عامر لأحد مجانين قومه، واسمه مزاحم بن الحارث المجنون
ألا أيها القلب الذي لج هائما
بليلى وليدا لم تقطع تمائمه
أفق قد أفاق العاشقون وقد أنى
لك اليوم ان تلقى طبيبا تلائمه
اجدك لا تنسيك ليلى ملمة
تلم ولا عهد يطول تقادمه
وانشد الاعرابي نفسه لمعاذ بن كليب المجنون
ألا طالما لاعبت ليلى وقادني
الى اللهو قلب للحسان تبوع
وطال امتراء الشوق عيني كلما
نزفت دموعا تستجد دموع
فقد طال امساكي على الكبد التي
بها من هوى ليلى الغداة صدوع
ففي القطعة الاولى القلب الذي هام بليلى وليدا لم تقطع تمائمه وهو تصوير لقدم هيام المجنون بليلى، وكأنه احبها منذ ان كان طفلا وليدا لم يمنعه عن حبها تميمة (وهي خرزة او ما يشبهها كان الاعراب يضعونها على اولادهم للوقاية من العين والارواح)، كما انه يحبها مهما تطاول عهده بحبها, وادراك الحب هنا بوصفه اشبه بالمرض الذي يولد به الانسان، وقد يفيق العاشقون منه ولكن المجنون لا يجد الى ذلك سبيلا ولا طبيبا يفعل المجنون ذلك بالطبع ليستبقي جنونه، وبالتالي يستبقي قدرته على الشعر.
وفي القطعة الثانية يحل الكبد محل القلب (وهما مترادفان في العربية، شعريا على الاقل).
وفي مقابل القلب الذي لم تقطع تمائمه يمسك الشاعر على الكبد التي بها من هوى ليلى الغداة صدوع فكبد الشاعر مثل حائط اصابه الصدع من هوى ليلى ولكنه يحاول جهده التماسك حتى لا ينهار, ولعلنا نلاحظ هذا الطول في طالما في البيت الاول وطال في البيت الثاني والثالث, فهي كلمة واحدة تقريبا توحد بين زمن ملاعبة ليلى الحسان، وزمن الشوق والفراق، زمن الانهيار, ومن هنا يمكن ان نرى هذه الكلمة طال تشكل قافية في بداية الابيات الثلاثة في مقابل القافية العروضيةالعين التي تحمل بدورها معنى الاستسلام والبكاء والتصدع.
ومن ابيات اخرى للمجنون وقد ذكر الكبد كذلك قوله
الا ليت ليلى اطفأت حر زفرة
اعالجها لا استطيع لها ردا
اذا الريح من نحو الحمى نسمت لنا
وجدت لمسراها ومنسمها بردا
على كبد قد كاد يبدي بها الهوى
ندوبا وبعض القوم يحسبني جلدا
فالكبد التي طال امساك الشاعر عليها وبها صدوع من هوى ليلى، في الابيات المذكورة سابقا تعود هنا وقد كاد يبدي بها الهوى ندوبا .
ومما غني للمجنون قوله
إذا ذكرت ليلى عقلت وراجعت
روائع عقلي من هوى متشعب
وقالوا صحيح ما به طيف جنة
ولا الهم الا بافتراء التكذب
وشاهد وجدي دمع عيني وحبها
برى اللحم عن احناء عظمي ومنكبي
والشاهد هنا هو البيت الاخير، وان كان البيتان قبله يمهدان له، ولكن الشاعر نفسه يلخصهما في بيته الاخير واذا كان دمع العين علامة طبيعية على الوجد، فان المقصود هنا هو حبها برى اللحم عن احناء عظمي ومنكبي ان مثل هذه الخاصية تحقق مبدأ من اهم مبادىء الفن، بل هو اسلوب الفن الاساسي، على حد تعبير فيكتور شكلوفسكي الناقد الروسي المعروف في مقالته الفن باعتباره تكنيكا وهذا المبدأ هو كسر التوقع الخروج على المألوف المتوقع من جهة القارىء والمتلقي عموما فاذا كانت الدموع متوقعة فلا شك ان بري اللحم عن احناء العظم والمنكب شيء غير متوقع.
وقد غنى عريب المغني المشهور لمجنون الصوت التالي
عرضت على قلبي العزاء فقال لي
من الآن فايأس لا أعزك من صبر
اذا بان من تهوى واصبح نائيا
فلا شيء اجدى من حلولك في القبر
وداع دعا اذ نحن بالخيف من منى
فهيج اطراب الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما
اطار بليلى طائرا كان في صدري
دعا باسم ليلى ضلل الله سعيه
وليلى بأرض عنه نازحة قفر
وشاهدنا هنا هو البيت قبل الاخير: فكأنما اطار بليلى طائرا كان في صدري وسوف تعود صورة الطير (الذي تكلمنا عنه في الشعر الجاهلي الاسبوع الماضي) مرة اخرى عند المجنون وهنا يطير قلب الشاعر باسم ليلى الى حيث تقيم نازحة بأرض قفر, ولا يصل طريقه اليها وان دعا الشاعر على ذلك الداعي باسم ليلى بان يضلل الله سعيه, وهل المكان القفر الذي تقيم فيه ليلى افضل من القبر الذي يقترحه قلبه عليه في البيتين الاولين, ونلاحظ مرة اخرى ذلك التكرار في بداية الابيات وهنا تتكرر كلمة دعا ثلاث مرات وقد نلاحظ كذلك الحديث مع القلب واقتراح العزاء عليه في مقابل الاقتراح الضمني في دعاء الداعي باسم ليلى، والدعاء عليه لقد بدأ الشعر العربي تتعدد اصواته الداخلية ، ان جاز التعبير، فيما يمكن عده روحا جديدة بدأت تظهر بقوة في الشعر العربي في تلك الحقبة، وبخاصة في اشعار المجانين والعشاق، وبعض الشعراء الذين عاصروا اولئك المجانين والعشاق، مثل ذي الرمة وجرير والفرزدق.
وفي صوت آخر يبدأ بالطير ايضا، وهو يقصد برؤية ليلاه عند مضجعه حلمه بها او زيارة طيفها إياه، وهو ما سوف يوضحه بيت تالٍ؛ يقول المجنون
الا ما لليلى لا ترى عند مضجعي
بليل ولا يجري بذلك طائر
بلى ان عجم الطير تجري اذا جرت
بليلى ولكن ليس للطير زاجر
وينهي الشاعر المقطوعة بقوله:
وقد اصبح الود الذي كان بيننا
اماني نفس والمؤمل حائر
لعمري لقد رنقت يا ام مالك
حياتي وساقتني اليك المقادر
وهنا ترنق ليلى حياة الشاعر، وقد ساقته اليها المقادر, والترنيق كما يشرح محققو الكتاب، كما يطلق على التكدير يطلق على ضده الذي هو التصفية ولعل معنى التكدير والتصفية مقصود في البيت الاخير معا والمؤمل الحائر في البيت الذي قبله يؤكد الفكرة، بالاضافة الى سوق المقادير في البيت الاخير نفسه ولعل جري الطير في البيتين الاوليين يعمقان هذا المعنى من الحركة التي لا يستطيع حيالها الشاعر شيئا سوى اماني نفس وهي كل ما تبقى له من حب ليلى.
ويعود الشاعر مرة اخرى الى القلب والمحبة ولكن ليدخل بينهما جزءا اخر من جسده؛ قال
نهاري نهار الناس حتى اذا بدا
لي الليل هزتني اليك المضاجع
اقضي نهاري بالحديث وبالمنى
ويجمعني والهم بالليل جامع
لقد ثبتت في القلب منك محبة
كما ثبتت في الراحتين الاصابع
فالمحبة تثبت في القلب كما تثبت الاصابع في الراحتين , بعبارة اخرى، الشاعر يحب ليلى منذ ولادته لان الاصابع ثابتة في الراحتين منذ الولادة كذلك وليس هذا من قبيل الاستنتاج الساذج، فالادراك الشعري لايقف عند حدود التشبيه الخارجية والامثلة الاخرى من الشاعر نفسه توضح لنا وتؤكد صحة استنتاجنا فمثلا يتلو هذه الابيات غيرها
اظن هواها تاركي بمضلة
من الارض لا مال لدي ولا اهل
ولا احد افضي اليه وصيتي
ولا صاحب الا المطية والرحل
محا حبها حب الالى كن قبلها
وحلت مكانا لم يكن حل من قبل
فالصورة التي قد تكون مألوفة او متوقعة، في البيت الاول، من ان هواها سوف يتركه بأرض يضل فيها، تقابلها، في البيت الاخير، صورة الحب الذي يمحو الحب، والمحبوبة التي تحل مكانا (في قلبه) لم يكن حل من قبل ، وهي صورة توحي بالابدية والازلية معا، على نحو ما توحي به صورة الاصابع في الراحتين، وصورة القلب الذي لم تقطع تمائمه.
ومرة اخرى يجتمع القلب والطير في صوت آخر للمجنون غناه ابن المكي وابراهيم الموصلي وغيرهما
كأن القلب ليلة قيل يغدى
بليلى العامرية او يراح
قطاة عزها شرك فباتت
تجاذبه وقد علق الجناح
ولكن الطير/ القطاة يعزها، اي يغلبها، الشرك لتجاذبه طوال الليل، املا بالنجاة وهذه صورة لا يهم فيها متى سيتم الذهاب بليلى ولكنها بالنسبة الى الشاعر تصبح ليلة في الاسر ولكن الشاعر نفسه يعطينا صورة مقابلة من الطير والمحب؛ قال:
لقد غردت في جنح ليل حمامة
على إلفها تبكي واني لنائم
كذبت رب البيت لو كنت عاشقا
لما سبقتني بالبكاء الحمائم
ان الشاعر يغار من الطير، وهو الذي يتعلم منها البكاء، لانها تبكي وهو ينام , وقد نقول ان البكاء هنا بالنسبة الى الشاعر هو التغريد اي الشعر، فهو يبكي نومه عن الشعر، وبالتالي نومه عن العشق, ان وظيفة الشاعر هي العشق/ الشعر،كما ان وظيفة الحمائم التغريد/ البكاء، والقاسم المشترك هو ذلك الالف الذي يستترف من كلال العاشقين تغريدهما.
ومن نهاية مقطوعة نقرأ للمجنون
لعمرك ان الحب يا أم مالك
بقلبي براني الله منه للاصق
يضم عليَّ الليل اطراف حبكم
كما ضم اطراف القميص البنائق
وهذه صورة حضارية تجتمع فيها اطراف الحب واطراف القميص ليشرحا لنا كيف يكون الحب لاصقا بالقلب وفي الوقت نفسه يدعو الشاعر الله ان يبريه منه فهذه الحسية المخصوصة، كما قلنا، تعطي طرافة لشعر المجنون ليست شائعة، في حدود علمي عند شعراء معاصرين له، على اقل تقدير.
وينضم الى ذلك قوله
غزتني جنود الحب من كل جانب
اذا حان من جند قفول اتى جند
وقوله
وما بي اشراك ولكن حبها
كعود الشحا اعيا الطبيب المداويا
وقوله ، ذاكرا الطير من جديد
والحقيقة ان كل هذه الامثلة وغيرها تحتاج الى وقفة اكثر تأنيا وتأملا، ولذلك سوف نعود الى المجنون وقصته في الحلقة القادمة، ولكني لن استطيع ان اترك القارىء قبل ان أقرأ عليه هذا البيت الذي ينتمي الى الفكرة نفسها التي حاولت ان اوضحها في هذا المقال؛ قال المجنون
تكاد يدي تندى اذا ما لمستها
وينبت في أطرافها الورق الخضر
د, حسن البنا عزالدين
backtop
الاولــــى
محليـــات
فنون تشكيلية
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
العالم اليوم
مئوية التأسيس
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved